بقلم: الإعلامي/ خضران الزهراني
في ليلةٍ من ليالي الشتاء الباردة، حيث لا ضوء قمرٍ يرشد التائهين، خرجتُ وحدي إلى الخلاء الممتد، أبحث عن شيءٍ لا أدري ما هو، ربما عن إجابةٍ لأسئلةٍ لم أطرحها بعد، أو عن سلامٍ أفتقده وسط زحام الحياة. جلست على صخرةٍ باردة، أراقب السواد الحالك يحيط بي من كل جانب، حتى بدت الدنيا وكأنها قد اختفت تمامًا، ولم يبقَ إلا أنا وهذا الظلام العميق الذي يبتلع كل شيء.
لم يكن المكان مخيفًا كما قد يبدو، بل كان يحمل في صمته شيئًا غامضًا، كأن في جوفه سرًّا ينتظر أن يُكشف. وبينما كنتُ أتأمل، لمحتُ من بعيد ظلًا يتحرك بين الأشجار المتناثرة، كان شبحًا باهتًا، بالكاد أستطيع تمييزه وسط العتمة. شدّني الفضول، فنهضتُ ببطء، محاولًا الاقتراب دون أن أصدر أي صوت.
كلما تقدّمت، بدا لي أن الظل لم يكن مجرد خيال، بل كان شخصًا حقيقيًا، يتحرك بخطواتٍ ثقيلة، كأن الأرض تُثقل قدميه. تسارعت دقات قلبي، وتساءلت: من قد يكون في هذا المكان الموحش في مثل هذا الوقت؟ ولماذا يسير بهذه الطريقة؟
توقفتُ للحظة، لكن فضولي دفعني لمواصلة التقدم. وعندما اقتربت بما يكفي، رأيته أخيرًا. كان رجلاً عجوزًا، ملامحه غارقة في ظلال الليل، عيناه غائرتان، لكنهما تحملان بريقًا غريبًا. وقف هناك، كأنه ينتظرني.
– “لماذا تتبعني؟” سأل بصوتٍ خافت، لكنه كان واضحًا كأنه يخترق السكون.
ترددتُ للحظة، ثم قلت: “لم أكن أتبعك، رأيتك فقط… وأردت أن أعرف، ماذا تفعل هنا وحدك في مثل هذا الوقت؟”
ابتسم العجوز ابتسامة بالكاد بدت على شفتيه، ثم نظر إلى السماء المظلمة وقال: “ليس أنا من اختار الظلام، بل هو من اختارني…”
كانت كلماته مبهمة، لكن صوته حمل حزنًا عميقًا. شعرت برغبةٍ في معرفة قصته، فسألته: “كيف يمكن أن يختار الظلام أحدًا؟”
تنهد، وجلس على جذع شجرة متآكل، فأدركت أنه على استعدادٍ للكلام. جلستُ بجواره، وأخذ يسرد حكايته:
“قبل سنواتٍ طويلة، كنتُ رجلاً مختلفًا، كنت أعيش بين الناس، أعمل، أضحك، وأحلم. لكن في إحدى الليالي، اختفى ابني الوحيد في هذا المكان. خرج ولم يعد، بحثنا عنه لأيامٍ وأسابيع، لكن لا أثر له. البعض قال إنه ضاع، آخرون قالوا إن الوحوش ابتلعته. أما أنا… فلم أصدق أيًّا من ذلك. كنت متأكدًا أن الظلام نفسه قد أخذه.”
شعرتُ بقشعريرةٍ تسري في جسدي، لكنه واصل حديثه دون أن يلحظ ذلك:
“منذ تلك الليلة، لم أعد كما كنت. تركتُ كل شيءٍ خلفي، وأتيتُ إلى هنا، أبحث في هذا المكان كل ليلة، أبحث عن همسةٍ، عن أثر، عن شيءٍ يخبرني أن ابني لا يزال هنا، في مكانٍ ما بين الظلال.”
نظر إليّ بعينين يملؤهما الأسى، ثم قال بصوتٍ خافت: “لكنني لم أجد شيئًا، لا صوت، لا صدى، لا حتى حلمٌ يخبرني أين ذهب. وكأن الظلام نفسه قد ابتلعه، وأبى أن يعيده.”
ساد الصمت بيننا، ولم أجد ما أقوله. لم يكن هناك عزاءٌ يكفي، ولا كلماتٌ تخفف من ثقل هذا الحزن الذي سكن عينيه. بقيتُ معه لبعض الوقت، نستمع معًا إلى صمت الليل، قبل أن أقف وأقول: “ربما لم يأخذه الظلام، ربما هو في مكانٍ آخر، ينتظرك أن تخرج إليه.”
ابتسم العجوز، لكنها كانت ابتسامةً واهنة، كأنها تحمل يقينًا مختلفًا عن يقيني. وقبل أن أرحل، قال لي: “احذر يا بني، فليس كل ظلامٍ مجرد غيابٍ للضوء… بعضه يحمل أسرارًا لا يجب أن تُكشف.”
تركتُه هناك، جالسًا في وحدته، مختفيًا بين الظلال. وعندما عدتُ أدراجي، كان هناك إحساسٌ غريب يلازمني… إحساسٌ بأنني قد اقتربتُ من سرٍ لا يجب أن أقترب منه، وبأن الظلام الذي كنتُ أظنه مجرد سوادٍ خالٍ، قد يكون أكثر حياةً مما نتخيل.