بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
١٩/ ١٠/ ٢٠٢٤ م
قال تعالى في الآية ٢٨٣ من سورة البقرة:
{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ }
صدق الله العظيم.
فالدَّيْن أمره عظيم لتعلُّق حق الغير بذمة المدين. فقد ورد عن رسول الله ﷺ: “يُغفَر للشهيد كلُّ ذنب؛ إلا الدَّين”؛ رواه مسلم (١٨٨٦). وقوله ﷺ: “نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.”
وقد قيل في الأمثال: “اصدُق مع الناس وشاركهم أموالهم” وهي مقولة تعبر عن خلاصة تجارب البشرية في أداء الأمانة. أصبح من النادر في هذا الزمان أن نجد من يطلب السلف والدَّيْن وفي نيته الوفاء. وليس هذا بمستغرب، فقد ورد عن النبي ﷺ عدة أحاديث تحث على الأمانة وتحذر من تضييعها وتصفها بأنها أول ما يُفقد من دين الناس. نورد بعضًا من تلك الأحاديث لعلنا نُراجع أنفسنا قبل فوات الأوان:
قال ﷺ: “أول ما تفتقدون من دينكم الأمانة” ( ٤٣٣٥ الجامع الصغير). كما قال ﷺ: “أول ما يرفع من الناس الأمانة وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، و رب مصلٍ لا خلاق له عند الله تعالى” ( ٤٣٤٠ الجامع الصغير ).
وقال عليه الصلاة والسلام: “أد الأمانة إلى من ائتمنك” (إرواء الغليل، ١٥٤٤) ، وعن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: “أد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك” (الجامع الصغير، ٢٤٠).
وعن ابن عمر قال رسول الله ﷺ: “أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم” (الجامع الصغير، ٨٧٥).
وعن حذيفة في حديث الشفاعة عن رسول الله ﷺ قال: “وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا” (رواه مسلم).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا الأمانة إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم” (صحيح لغيره، الترغيب والترهيب، ١٩٠١).
ومن استدان وفي نيته الرد، فقد تكفَّل الله بقضاء الدين عنه في الدنيا أو الآخرة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله” (رواه البخاري، ٢٣٨٧).
فالواجب على المدين أن يقضي حق الدائن في وقته، ويحرُم عليه تأخير القضاء من غير عذر، فيستحق العقوبة الدنيوية والأخروية. فعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: “مَطْل الغني ظلم” (رواه البخاري، ٢٢٨٨، ومسلم، ١٥٦٤).
أما من استدان فعجز عن الوفاء وفي نيته الأداء حتى توفاه الله تعالى ولم يسدد دينه، فإنه غير مؤاخذ في الآخرة. وعلى دائنيه عدم مطالبته بالدين والتسبب في سجنه، وعليهم إنظاره إلى ميسرة، امتثالًا لقوله تعالى: “وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة:٢٨٠).
وإن كان المدين فقيرًا، فيُستحب للدائن أن يضع من الدين الذي له عليه، فيُحسن كما أحسن الله إليه. فعن كعب بن مالك: “أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه، في عهد رسول الله ﷺ في المسجد، فارتفعتْ أصواتُهما، حتى سمعها رسول الله ﷺ وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله ﷺ حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعبَ بن مالك، فقال: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه بيده أنْ ضعِ الشطر من دَينك، قال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، قال رسول الله ﷺ: قم فاقضه” (رواه البخاري، ٤٥٧، ومسلم، ١٥٥٨). مما يُستفاد من هذا الحديث أنه يُسَن للمسلمين أن يسعوا في التخفيف من ديون الفقراء.
كما يجوز للمدين أن يأخذ الزكاةَ لقضاء دينه، إذا كان الدين حالًا، وليس عنده مال زائد عن حاجته يقضي به الدين، فهو من الغارمين، فتتناوله الآية، ولا يُطالَب ببيع ما يحتاجه من بيت، أو سيارة، ونحو ذلك لقضاء الدين. أما إذا كان الدين مؤجَّلًا، وحينما يحل الأجل يجد ما يسدد به الدين، فلا يجوز له أن يأخذ من الزكاة.
ويجوز كذلك للدائن أو المدين تعجيل الدين قبل أوانه مقابل إسقاط بعض الدين، فينتفع الدائنُ بتعجيل حقه، والمدينُ ببراءة ذمته. وقد أفتى بجوازها حبرُ الأمة ابن عباس. فقد سئل ابن عباس عن الرجل يكون له الحق على رجل إلى أجل، فيقول: “عجِّل لي، وأضع عنك”، فقال: “لا بأس بذلك” (رواه عبد الرزاق، ١٤٣٦٠، بإسناد صحيح).
وختامًا، فإن للهدية المقدمة من المدين للدائن أحوالًا مختلفة يختلف معها الحكم تحليلًا وتحريمًا. فمن ذلك:
حين القضاء أو بعده : يجوز للمدين أن يرد أكثر أو أفضل من الدين الذي في ذمته، إذا كان هذا إحسانًا منه، واعترافًا بالجميل، من غير شرط. فعن أبي رافع رضي الله عنه: “أنَّ رسول الله ﷺ استسلف من رجل بَكْرًا، فقدمتْ عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع رضي الله عنه أن يقضي الرجل بَكْرَهُ، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خِيَارًا رَبَاعِيًّا. فقال: أعطه إياه، إنَّ خيار الناس أحسنُهم قضاء” (رواه مسلم، ١٦٠٠). فردَّ النبي سنًّا أفضل من السن التي اقترضها.
قبل الوفاء : يحرم على المقرض قبولُ هدية المقترض؛ لأنَّ المقصود بالهدية أن يُؤخَّر الاقتضاء، وإن لم يُشترط ذلك ولم يُتكلَّم به، فإنه بمثابة الربا. فعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: “أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: ألا تجيء فأطعمَك سويقًا وتمراً؟ ثم قال: إنَّك بأرضٍ الربا بها فاشٍ. إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حِمْل تِبْنٍ، أو حمل شعير، أو حمل قَتٍّ فلا تأخذه؛ فإنَّه ربا” (رواه البخاري، ٣٨١٤).
أما إن كانت الهدية ليست بسبب القرض، لقرابة بينهما مثلًا، أو كان التهادي بينهما قبل القرض، فهي جائزة.