الرئيسية مقالات “حين خاننا الوقت.. وبقيت الأماني تنزف”

“حين خاننا الوقت.. وبقيت الأماني تنزف”

62
0

 

الكاتب الإعلامي/ خضران الزهراني

في أحد أحياء المدينة القديمة، وبين أزقةها الضيقة المزدحمة برائحة الخبز والحكايات المنسية، عاش “رائد”، شاب هادئ الطبع، بسيط الحال، يعمل في مكتبة ورثها عن والده. لم يكن يملك من الدنيا سوى رفوفٍ من الكتب، ودفتر صغير يدوّن فيه أحلامه، وقلبٍ واسعٍ يتسع لحبٍ نادر.

كانت “ليان” مختلفة. ابنة رجل ثري، تعيش في فيلا واسعة، لا تعرف عن الحياة شيئًا سوى ما تسمعه في الحفلات أو تراه من خلف زجاج السيارة الفارهة. لكنها كانت تكره الزيف، وتبحث عن شيء حقيقي، شيء يشبهها بعيدًا عن أسماء العائلات وحفلات الأعراس المزيّفة.

دخلت مكتبته ذات يوم، تبحث عن رواية تشبهها. لم تكن تعلم أنها ستجد قلبًا يتنفس من بين السطور.

وقفت أمامه، نظرت إلى عينيه، وسألته:

– “هل عندك رواية عن الحب الصادق؟”

ابتسم، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال، وأجابها:

– “بل عندي قلب، كله صدق، إن كنتِ تملكين الشجاعة لقراءته.”

منذ تلك اللحظة، تغيّر كل شيء.

أصبحت المكتبة وطنًا صغيرًا لهما، يجلسان بين الكتب، يتبادلان الحديث، يضحكان، ويحلمان معًا بمستقبل يُبنى لا على المال ولا الجاه، بل على الودّ، والتفاهم، والقلوب النظيفة.

كان رائد يقول لها دائمًا:

– “أنا لا أعدك بقصر ولا خاتم من ألماس.. لكن أعدك أنني لن أحب سواك، حتى آخر يوم في عمري.”

وكانت ترد عليه بابتسامة دامعة:

– “يكفيني وعدك.. فالحب الذي نملكه، لا يشبه شيئًا في هذه الدنيا.”

لكن الحياة، في كثير من الأحيان، لا تعترف بنقاء النوايا.

وصل الخبر إلى والدها، وانهار كل شيء في لحظة.

– “ابن المكتبة؟! هذا لا يناسبك يا ليان.. ستمحين اسم عائلتنا بهذا العبث؟!”

رفضت، وبكت، وحاولت أن تقنعه بأن الحب لا يُقاس بالمادة، لكن الكبرياء كان أعمى.

في ليلة باردة، جاءها الأمر القاطع: “غدًا ستُخطبين.”

بكت حتى جفت دموعها، وكتبت له رسالة، تقول فيها:

– “سامحني يا رائد، قلبي معك.. لكن جسدي يُجر إلى حيث لا أريد.”

أما هو، فقد استقبل الخبر كمن تلقّى طعنة في القلب. لم يغضب، لم يصرخ، فقط كتب لها رسالة أخيرة، خطّها بدمعه:

“ليان، لا أحد يعلم كم أحببتك.. لا أحد يعلم كم من الأحلام دفنتها الليلة.

لكنّي أتركك الآن، لا لأنني لا أريدك، بل لأنني لا أريدك أن تتعذبي أكثر.

سيقول الناس إننا كنا حماقة، وإن حبنا لم يكن له مستقبل، لكنك كنتِ مستقبلي كله.”

وغاب. رحل عن المدينة، وسافر يبحث عن نفسه وسط الخيبة.

سنوات مرت، والألم ينزف بصمت.

لكنه لم ينسَ.

عاد بعد أعوام، طبيبًا بارعًا، يحمل شهادات وتقدير، لكنه يحمل في داخله جرحًا لم يلتئم.

لم ينسَ الوعد. لم ينسَ الحب.

أنشأ عيادة صغيرة في المدينة، وعلى بابها كتب:

“مركز ليان الطبي.. لأن بعض الأسماء لا تموت، ولو ماتت القلوب.”

وسأله أحدهم ذات يوم:

– “لماذا هذا الاسم؟”

فأجابه وهو ينظر إلى السماء:

– “لأنها كانت أمنيتي الوحيدة.. الأمنية التي نزفت، وما زالت تنزف.”

الرسالة؟

بعض الأماني لا تموت، لكنها تنزف بصمت.

وبعض القصص لا تُكتب بالنهايات السعيدة، بل تُحفر في القلب كندبة لا تزول.

الحب لا يكفي أحيانًا، لكن الذكرى تبقى.. شاهدة على صدقٍ لم يُكتب له أن يكتمل.