بقلم: أحمد علي بكري
في سن السادسة، يقف الطفل عند عتبة عالمٍ جديد، مرتديًا زيًا مدرسيًا قد لا يفهم رمزيته بعد، لكنه يُدرك وبشكل حدسي أن هناك شيئًا يتغير. في هذا العُمر، تنكسر أولى لحظات العفوية المطلقة. المدرسة تُصبح الأرض الأولى التي نُدرب فيها على الإيقاع الخارجي: استيقظ في وقتٍ محدد، اجلس كما يُطلب منك، تجاوب كما يُتوقع منك، واحفظ ما لم تُدهش به.
هذه بداية الرحلة.
رحلة الحياة كما يُصممها الآخرون.
في المدرسة، نجد الأصدقاء، نلعب، نضحك، ونبني علاقات. لكنها أيضًا المكان الذي نتعلم فيه كيف نُطوِّع دهشتنا ونُخضعها للمنهج. شيئًا فشيئًا، تتقلص تلك المساحة العفوية التي كانت تُدهشنا فيها ورقة الشجر، ويملؤها جدولٌ مدرسيّ لا يرحم.
وهكذا، دون أن ندري، يبدأ زحام الحياة.
■ الكبار يجيدون ملء الجداول… ولكن
حين نكبر، نكتشف أن الحياة تُكافئنا لا على اندهاشنا، بل على انضباطنا. نحن نحصد التقدير حين نُنجز، لا حين نتأمل. نُكافأ على الجهد، لا على الصمت. وهكذا نصبح خبراء في ملء تقاويمنا: مواعيد، مهمات، أهداف…
لكننا سيئون جدًا في شيء بسيط: ترك مساحة.
مساحة لله.
ومساحة للنفس.
ومساحة للعَجَب.
“ليس الوقت ما ينقصنا، بل الانتباه لما يستحق الوقت.”
— ديفيد ثورو
في سعينا الحثيث لنكون في كل مكان، ننسى أن نكون مع أنفسنا. وفي رغبتنا بأن نُرضي الجميع، ننسى أن نرضي الله أولًا.
■ أين الله وسط هذا الضجيج؟
في خضم الإنجاز، العلاقات، الطموحات، والتحديات… قل لي بصدق:
أين الله في جدولك؟
هل تضعه في بداية يومك أم في نهايته؟
هل تراه في اللحظات الصغيرة؟ أم فقط حين تُحاصر بالمآسي؟
هل تترك له مساحة في قلبك قبل أن تملأه بكل شيء آخر؟
“تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة.”
— حديث نبوي شريف
نحن ننسى الله حين نعتقد أن كل شيء بأيدينا. ننساه حين نتوهم أننا نتحكم في المصير. لكنك لا تكون حرًا تمامًا، حتى تكون عبدًا صادقًا.
فالمساحة التي تتركها لله… هي المساحة التي تنجو فيها.
“وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون.”
— القرآن الكريم، الذاريات: 56
العبودية لله ليست ضعفًا، بل أعلى حالات السيادة الداخلية. إنها اللحظة التي ترفع فيها رأسك من زحام العالم وتقول: “اللهم أنت وحدك مقصدي”.
■ النفس… الحبيسة التي نسيناها
في محاولة أن نكون كما يُريدنا العالم، نسينا أن نُعطي أنفسنا إذنًا بالوجود الحقيقي.
كلما زاد زحام الحياة، زاد اختناق النفس.
لكن النفس لا تُشفى بالإنجاز.
النفس تُشفى بالسكون.
“من عرف نفسه، عرف ربه.”
— قول مأثور
أن تترك مساحة لنفسك، ليس ترفًا، بل ضرورة روحية.
تأمل، اقرأ دون هدف نفعي، امشِ دون وجهة، اجلس في صمت، اسأل دون إجابة.
كن كما كنت قبل السادسة… قبل أن تبدأ اللعبة الكبيرة.
■ الدهشة… والعودة إلى الأصل
“الحكمة تبدأ بالدهشة.”
— سقراط
حين كنت طفلًا، كانت الأشياء تُدهشك لأنها كانت حقيقية.
الدهشة ليست ضعفًا معرفيًا، بل نقاءً روحيًا.
وهي المفتاح الذي يُعيدك إلى الله، إلى نفسك، إلى كل ما فقدته في الطريق.
“الفيلسوف هو من يستيقظ كل صباح مندهشًا أنه موجود.”
— آرثر شوبنهاور
العَجَب هو الفسحة التي تسمح لك أن ترى النور في الزحام، أن ترى الله في التفاصيل، وأن ترى نفسك كما لم تفعل من قبل.
■ الرحلة… ليست إلى الأمام فقط
كل ما أطلبه منك هذه الليلة، ليس أن تُغير العالم.
بل أن تُغيّر زاوية نظرك إليه.
أعدك أن المسألة لا تحتاج مجهودًا خارقًا.
بل مجرد شجاعة لتُبطئ قليلًا.
أن تترك فسحة لله في قلبك، وفسحة لنفسك في جدولك.
أن تتصالح مع فكرة أنك لا تحتاج أن تعرف كل شيء، ولا أن تُسيطر على كل شيء.
“ليس علينا إدراك كل شيء، بل فقط أن نتذكر أن هناك شيئًا يستحق أن نترك له فراغًا في حياتنا.”
— أنطوان دو سانت إكزوبيري، مؤلف الأمير الصغير
■ الختام: دعوة إلى الداخل
الليلة، أُريد أن أدعوك إلى رحلة غير مألوفة.
ليست إلى الخارج، بل إلى الداخل.
رحلة تبدأ بسؤال:
هل تركت مساحة لله؟
هل تركت مساحة لنفسك؟
إذا كنت مستعدًا، فاعلم أنها ستكون رحلة دهشة، وطمأنينة، وربما… عودة.
عودة إلى الطفل الذي كنته في السادسة.
قبل أن تُدرّب على الجداول، وقبل أن يُعلَّمك الناس أن تملأ كل لحظة.
أعدك، لن تندم على أن تترك فراغًا لله، وفراغًا لنفسك، وفراغًا للعَجَب.
فالذين يتركون مساحات في قلوبهم، وحدهم يعرفون كيف يملؤونها بما لا يُرى… ولكن لا يُنسى.