في ربيع عام 2006 اتصلت بالوزير أمين هويدي الذي كان مديرًا لجهاز المخابرات العامة المصرية ووزيرًا للحربية (الدفاع حالياً) في وقت واحد، بعد نكسة 67.
في المحادثة التليفونية طلبت زيارته لإجراء مقابلة صحفية – ونُشرت في حينها – فسألني بهدوء واضح في صوته:
ولماذا المقابلة؟ قلت: ببساطة أريد أن أرى – وأجلس – وأحاور – الرجل الذي أشرف على واحدة من أنجح عمليات العسكرية المصرية، وهي تدمير (المدمرة والميناء) إيلات. فسكت قليلًا ولم يرد، وكأنه يتذكَّر شيئًا ما، ثم قال:
” الحمد لله.. الحمد لله” وواصل كلامه: “وهل نسيت عملية الحفار التي كان العدو يسعى لامتلاكه”؟ قلت: أعرف يا أفندم الكثير عن هذه العملية من القراءة عنها، فرد قائلا: “لقد استطعنا بجهود الرجال الصادقين والمؤمنين بالوطن من تفخيخه وتدمير جزء كبير منه في أبيدجان”..
ثم سكت مرة أخرى، وقال: “إذن موعدنا الإثنين القادم الساعة الواحدة ظهراً”.. ثم استأذن وغاب صوته حتى سمعت صوت السماعة وهي توضع في مكانها بهدوء.
أغلقت الخط وأنا سعيد بلقاء هذه الشخصية التي وصفها الرئيس جمال عبد الناصر قائلاً:
” أمين هويدى من أصدق الرجال، يقول الحق ولو على نفسه”
•••
في اليوم المتفق عليه ذهبتُ، حيث يسكن في حي مصر الجديدة – شرق القاهرة.
المنزل في شارع هادئ، ولا توجد حراسة بجواره. تقف سيارة بيضاء فقط وجوارها سائق يترقب المارة من حين لآخر. سألته فأشار لي بالدخول،
ثم نظر السائق في ساعته، ونظر لي مندهشًا، وأنا لم أفهم لماذا اندهاشه؟ إلا عندما أصبحت وجهًا لوجه مع أمين بيه؟
وقبل أن يرحب بي.. سألني: “كم الساعة الآن في يدك”؟ قلت: وأنا أنظر لها: بصراحة يا أفندم المواصلات زحمة وكوبري 6 أكتوبر مختنق جدًا بالسيارات، وهذا هو الذي جعلني أتأخر، رد بغضب:
“يا ابني أنا سألتك عن الساعة، ولم أسألك عن الشوارع”.
قلت وأنا مرتبك من حدته وقوة صوته وصرامة الحروف التي ينطق بها: الساعة الواحدة والربع، قال: “إذن أنت تأخرت عن موعدك 15 دقيقة.. وبالتالي اشرب قهوتك واتفضل”.
•••
شعرت أن الموقف تعقد، وأن أي كلام سيزيد الموقف تعقيدًا.. فالتزمت الصمت بعض الوقت، ثم قلت: لكنني لا أحب القهوة يا أفندم ممكن أشرب شاي.. فرد بهدوء مصحوب بابتسامة عابرة على وجهه.. وقال:
“وكمان هتشرب على مزاجك.. وضحك ضحكة عالية” ثم نظر للسائق الذي ما زال واقفًا بجواري، وملامح وجهه تكشف عن كتمانه لضحكات بداخله تكاد تنفجر، وهو يتابع الموقف والحوار بيننا، وقال له: “هات للأستاذ شاي ولي فنجان قهوة” ثم قال بعدما هدأ تمامًا:
“يا ابني من لا يحترم المواعيد لا يستطيع إنجاز أي شيء، ولن ينجح في أي شيء، كنت تقول في كلامك إنك قادم من طريق مررت فيه على كوبري 6 أكتوبر” قلت: نعم، قال: “هل تعلم أننا لو لم نحترم المواعيد في حرب أكتوبر 73 ما كنا حققنا النصر”.
وهل تعلم أننا لو كنا أهملنا ولو ثانية واحدة في التخطيط والتنفيذ أثناء العمليات العسكرية الفدائية، ومنها عملية الحفار وإيلات( ميناء ومدمرة) ما كنا نجحنا في تدميرهما”
•••
بعد دقائق خرج علينا السائق من المطبخ وجاء بالشاي والقهوة، وهو ينظر لي من تحت نظارته القديمة، ويكاد ينفجر من الضحك. وضعهما وغادر المكان، وأنا أبتسم له.
قلت له:
أنا قرأت كتابات كثيرة عما يسمى بمراكز القوى التي أطاح بها الرئيس السادات، وتوقفت عند اتهام حضرتك فيها.. خاصة عندما وجدت أن من بين الاتهامات التي وجهت إليك أنك ـ وأنت وزير للإرشاد القومي ـ انحزت إلى أحد فرق كرة القدم.. ضحك، وقال:” طيب اشرب الشاي” ثم واصل حديثه عن هذه المرحلة باهتمام شديد. وبالنسبة لمسمى مراكز القوي كان له رأيه المختلف الذي ربما أعود له في مقال منفرد).
•••
ثم تحدثنا عن هذه القضية وأحداثها، أرقامها، ومواقفها، وتحقيقاتها، وملابساتها ثم عن دوره العسكري الاستراتيجي عندما وضع خطة الدفاع عن مدينتي القاهرة وبورسعيد في حرب 56.
وكيف درس وعلَّم أجيالًا كثيرة من أبطال القوات المسلحة، وأدار بحكمة وعلم وذكاء بطولات العمليات الفدائية التي اشتركت فيها المخابرات العامة المصرية، ورجال القوات المسلحة، في فترة الانكسار بعد نكسة 67؟ وبعد أكثر من ساعة ونصف مد يده وارتشف آخر ما تبقى أمامه في فنجان قهوته، ثم وضع الفنجان أمامه وقال:
“الحمد لله.. لقد أديت دوري في خدمة الوطن في حدود ما استطعت”. ثم تطرق الحديث إلى موضوعات متفرقة.بعدها ابتسم وقال:
“وقتك انتهى يا أستاذ.. وفي المرة القادمة اضبط مواعيدك” قلت: حاضر، وودعته وهو مازال مبتسماً.
•••
ومن أمام باب منزله، اتخذت طريق عودتي سيرًا على الأقدام حتى أستقل (ترام) مصر الجديدة للعودة إلى وسط البلد..
وأنا على بعد خطوات من البيت شاهدت على مقربة سائقه يقف بجوار السيارة البيضاء وينظر لي وهو يضحك بصوت مسموع قائلاً: “مع السلامة يا أستاذ.. لا تتأخر المرة القادمة كما حدث اليوم”! ابتسمت له، وقلت: حاضر.. لن أتأخر المرة القادمة عن مواعيدي، لكنني الحقيقة تأخرت. تأخرت كثيرًا عن زيارته في المرة القادمة.
تأخرت لمدة ثلاث سنوات..سبقني فيها إليه الموت.. ومات !
مات الرجل الذي كان يقول” الحق ولو على نفسه”.
•••
والآن دعك من وصولى المتأخر، وغضب أمين بيه، وابتسامة السائق، والشاي والقهوة، ومراكز القوى، وتذكر فقط – وهذا ما قصدته – أن الرجال ضربوا ضربتهم في مدينة إبيدجان ( وهي مدينة في ساحل العاج) تبعُد عن القاهرة 4598كم بدقة، ومهارة، ونجاح. قد يقول البعض – وأنا لست منهم – الزمن تغير؟ والأسلحة تغيرت، والدنيا كلها تغيرت. نعم حدث ذلك بالفعل لكن”الرجالة همَّه الرجالة”..هكذا يعلمنا التاريخ.
خيري حسن
—————–
•• الأحداث حقيقية والسيناريو من خيال الكاتب
•• الصورة :
السيد أمين هويدى