الرئيسية مقالات الصعود للهاوية

الصعود للهاوية

316
0

 

جازان/محمد باجعفر.

صدى نيوز إس

عبارة “الصعود للهاوية” تحمل في ظاهرها تناقضًا جميلًا يوحي بالعمق الفلسفي.

فـ”الصعود” عادةً يُقصد به الارتقاء والعلو، بينما “الهاوية” ترمز للسقوط والانحدار والهلاك.

وحين تجتمع الكلمتان، تتشكل صورة رمزية قوية تُجسّد رحلة الإنسان نحو الهلاك بثقةٍ زائفة، أو اندفاعه نحو النهاية وهو يظن أنه يحقق المجد.

تُستخدم هذه العبارة عنوانًا لرواية أو قصيدة أو نص تأملي عن:

الغرور والطموح الأعمى الذي يقود إلى الدمار.

أو التناقضات في النفس البشرية بين الرغبة في العلو والخوف من السقوط.

أو حتى الواقع الاجتماعي والسياسي حين يصعد الناس درجاتٍ في الظاهر، بينما يسقطون قيميًا وإنسانيًا في العمق.

وفي خضم سباقٍ محموم نحو المجد والنجاح، يغفل كثيرون عن حقيقة الاتجاه الذي يسلكونه. يظنون أنهم يصعدون، بينما خطواتهم في الواقع تهوي بهم نحو قاعٍ سحيق، يتخفى خلف لافتة براقة تُسمّى “القمة”.

ذلك هو الوهم الأكبر: أن نظنّ السقوط صعودًا، وأن نخلط بين الارتفاع الحقيقي والارتفاع المزيّف الذي لا يحمل في جوفه إلا خواءً واغترارًا.

إن أخطر ما يواجه الإنسان في مسيرته ليس الفشل، بل النجاح المضلل؛ ذلك الذي يُغشي البصر ببريقه ويخدر الوعي بمدحه، حتى يظن صاحبه أنه بلغ المجد، فيما هو في الحقيقة يسير بخطى ثابتة نحو الهاوية.

كم من صاعدين فقدوا إنسانيتهم عند أول درجة، وكم من ناجحين نسوا قلوبهم على الطريق وهم يحملون أرقامًا وألقابًا لا تسمن أرواحهم ولا تغنيها عن فراغها العميق.

في زمنٍ امتلأ بالضجيج والمظاهر، صار كل صعودٍ سريعٍ موضع تصفيق، وكل بريقٍ آنيٍّ معيارًا للنجاح. غير أن الحقيقة تظل صامتة في الزوايا، تراقبنا ونحن نركض نحو المجهول، نغطي جراح أرواحنا بأثواب الإنجاز، ونخفي ضعفنا خلف ابتساماتٍ تُرضي الآخرين ولا تُرضي أنفسنا.

الهاوية اليوم ليست حفرةً في الأسفل، بل قد تكون برجًا في الأعلى.

هاوية القيم، وهاوية الوعي، وهاوية الضمير.

حين نصعد بغير مبدأ، ونرتقي بلا إنسانية، نكون كمن يشيد قصرًا على فوهة بركان؛ يبدو شامخًا من بعيد، لكنه هشٌّ في عمقه، ينتظر لحظة الانفجار.

الصعود الحقيقي ليس في أن تتفوق على غيرك، بل في أن تتفوق على نفسك، أن تنجو من غواية الأضواء، أن تحفظ قلبك من التيه في زحمة التصفيق.

القمم لا تُقاس بارتفاعها الجغرافي، بل بعمق القيم التي بُنيت عليها، وبالصدق الذي يضيء طريق الوصول إليها.

وحين نقف على حافة الهاوية، بعد رحلة طويلة من الصعود الزائف، ندرك متأخرين أن القمم التي لا تسكنها الروح، لا تسكنها الراحة.

ندرك أن المجد لا يصنعه الارتفاع، بل الاتزان، وأن القيمة لا تقاس بما نملكه، بل بما نصير إليه في النهاية.

إن “الصعود إلى الهاوية” ليس مجرد حالة رمزية، بل تجربة يعيشها كثير من الناس وهم لا يشعرون؛ حين تستهلكهم المظاهر ويغيب عنهم الجوهر، حين يُقاس النجاح بالعدد لا بالأثر، وبالشهرة لا بالمبدأ.

وهنا تكمن المأساة: أن نربح كل شيء في عيون الناس، ونخسر أنفسنا في أعماقنا.

فلنتمهّل ونحن نصعد، ولنسأل أنفسنا: إلى أين نمضي؟

فليس كل طريقٍ إلى الأعلى آمنًا، ولا كل ضوءٍ في الأفق نجمًا حقيقيًا.

إن بعض القمم ليست سوى هاوياتٍ مرتفعة، تُغرينا بالوصول، لتذكرنا في النهاية أن المجد بلا إنسانية سقوطٌ مؤجل، وأن أعظم الصعود… هو ذاك الذي يبقينا على الأرض، بثباتٍ ووعيٍ وصدقٍ مع أنفسنا.