بقلم:محمد أبو حريد
لم يعد المشهد الثقافي كما عهدناه قبل سنوات قليلة. فالعصر الحديث — عصر السرعة — أعاد تشكيل الإنسان والطريقة التي ينظر بها إلى نفسه وإلى الآخرين. تغيّرت الأولويات، تبدّلت القيم، وانقلبت المفاهيم رأسًا على عقب. ولم يعد السؤال: ماذا نعرف؟ بل أصبح: ما الذي نشاهده؟
هكذا وُلدت “الثقافة السريعة”، التي تسللت إلى أذهان الجيل الجديد حتى صارت المرجع الأول للمعرفة، بينما تراجعت الكتب، وخفت صوت الفكر، وانهزم التأمل أمام موجة ضجيج لا تتوقف.
هذه الثقافة لا تُمنح وقتًا للتفكير، ولا فرصة للتمحيص. إنّها ثقافة اللقطات الخاطفة، التي تغري العقول بسهولة وتخطف الانتباه كشرارة، ثم تترك بعدها فراغًا واسعًا لا يملؤه شيء.
ووسط هذا الزخم، سقطت هوية الجيل في فخ التقليد. فبدل أن يبتكر ويتفرد، أصبح يكرر ما يراه، ويركض خلف ما هو “رائج”، دون أن يسأل نفسه: “هل يعبر هذا عني حقًا؟”.
إن أخطر ما تصنعه الثقافة السريعة ليس المحتوى السطحي فحسب، بل تحويل الإنسان إلى نسخة مشوهة من الآخرين.
نسخة بلا جذور، بلا ثبات، بلا صوت خاص.
جيل يتقلب في أفكاره كما تتقلب الترندات… ويغير مبادئه كما يغير فلتر الصورة.
جيل فقد البوصلة الداخلية التي تقوده، وسمح لآلة الأضواء أن تحدد له ماذا يحب، كيف يفكر، وماذا يقول.
ومع ذلك، ليست المنصات هي المذنبة وحدها. فكل مجتمع يتحمل مسؤولية تراجع قيمه المعرفية. نحن الذين سمحنا للفكر أن ينكمش، وللحوار أن يختفي، وللعمق أن يذوب.
نحن الذين رضينا بأن يصبح معيار النجاح “عدد المشاهدات”، لا عدد الإنجازات… وأن يصبح هدف الإنسان “الظهور”، لا “الجوهر”.
لقد تحولت الشهرة اللحظية إلى إدمان جديد، يبحث عنه الكثيرون هربًا من مواجهة الذات. فمن الأسهل أن نصنع ضحكة في 10 ثوانٍ، من أن نبني فكرة تستحق البقاء. ومن الأسهل أن نلهث خلف موجة… من أن نصنع موجتنا الخاصة.
ومع كل هذا، لا تزال الفرصة قائمة لعودة الوعي.
فالجيل ليس بحاجة إلى إغلاق المنصات، ولكنه بحاجة إلى “غربلة” ما يتلقّاه. بحاجة إلى تربية ذوقه، وإعادة اكتشاف ذاته، وفهم أن هويته ليست مقطعًا سريعًا، بل قصة طويلة، تُكتب بالعلم والخبرة والقيم والإنجازات.
الجيل بحاجة إلى أن يعرف أن نجاحه الحقيقي لا يولد من ضجة، بل من أثر.
إننا أمام لحظة فارقة:
إما أن نتحول إلى مجتمع يُدار بالترندات…
أو مجتمع يقود هو الترندات.
وفي النهاية يبقى السؤال الأكبر، السؤال الذي يجب أن يُوجَّه لكل شاب وفتاة:
هل تقود حياتك أنت… أم يقودها المحتوى الذي تشاهده؟






