بقلم : كمال فليج
يُعدّ الاستعمار من أكثر الظواهر التاريخية قسوةً وإجحافًا في حقّ الشعوب، إذ لم يكن مجرّد وجودٍ أجنبيّ على أرضٍ محتلة، بل منظومة متكاملة من القمع والاستغلال والطمس الممنهج للهوية والإنسان. ومن هذا المنطلق برز مطلب تجريم الاستعمار كقضية أخلاقية وقانونية وإنسانية، تسعى إلى إنصاف الذاكرة الجماعية، وردّ الاعتبار للضحايا، وترسيخ مبادئ العدالة التاريخية.
لقد ارتكب الاستعمار، في مختلف بقاع العالم، جرائم جسيمة ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية، شملت القتل الجماعي، والتهجير القسري، ونهب الثروات، وتدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية، وطمس اللغات والثقافات، وفرض أنماط حياة غريبة بالقوة. ولم تكن هذه الممارسات حوادث معزولة، بل سياسات ممنهجة قامت على منطق التفوق العرقي والاستعلاء الحضاري، متجاهلة أبسط حقوق الإنسان.
وفي السياق الجزائري، يشكّل الاستعمار الفرنسي مثالًا صارخًا على بشاعة الاستعمار؛ إذ دام أكثر من 132 سنة، خلّف خلالها ملايين الشهداء، وارتكب مجازر مروّعة، وصادر الأراضي، وجرّد الإنسان الجزائري من أبسط حقوقه، وحاول طمس هويته العربية الإسلامية. كما خلّفت التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، والتعذيب الممنهج، وسياسة الإبادة الثقافية، جراحًا ما تزال آثارها قائمة إلى اليوم.
إنّ الدعوة إلى تجريم الاستعمار لا تنطلق من منطق الانتقام أو إثارة الأحقاد، بل من مبدأ الاعتراف بالحقيقة وتحقيق العدالة. فالشعوب التي عانت ويلات الاستعمار من حقّها أن يُعترف بما تعرّضت له من جرائم، وأن تُصان ذاكرتها من التزييف أو النسيان. كما أنّ هذا التجريم يُعدّ خطوة أساسية لمصالحة حقيقية مبنية على الصدق والاحترام المتبادل، لا على الإنكار أو التبرير.
ويكتسي تجريم الاستعمار أهمية كبرى في ترسيخ الوعي لدى الأجيال الصاعدة، حتى تدرك حجم التضحيات التي قُدّمت من أجل الحرية والاستقلال، وتحصّن نفسها ضدّ محاولات إعادة كتابة التاريخ بمنطق المنتصر. كما يُسهم في تعزيز القيم الإنسانية الكونية، ورفض كل أشكال الهيمنة والاحتلال والاستغلال في الحاضر والمستقبل.
وفي الختام، فإنّ تجريم الاستعمار ليس مجرّد مطلب سياسي أو قانوني، بل هو واجب أخلاقي وإنساني تجاه الشعوب التي عانت، وتجاه التاريخ ذاته. هو صرخة ذاكرة في وجه النسيان، ورسالة وفاء للشهداء، وخطوة نحو عالم أكثر عدلًا، يُحاسَب فيه الظلم مهما طال الزمن، وتُصان فيه كرامة الإنسان أينما كان.






