الرئيسية مقالات بين الظل والنار: تأملات في الخير والشر

بين الظل والنار: تأملات في الخير والشر

351
0

احمد علي بكري

 

لا يوجد ظلٌ إلا وله صاحب، ولا دخانٌ بلا نار، ولا ثمرةٌ تُقطف إلا من شجرةٍ نَمَتْ في صمت الأرض وانتظار السماء. هكذا هي الحياة، لا تسير عبثًا، ولا تولد الأحداث من فراغ. كل ظاهرةٍ في هذا العالم، مهما بدت بسيطةً أو عابرة، تقف وراءها يد، نية، أو أثر خفيٌّ يشقّ طريقه إلى الوجود.
في هذا الكون المتقن، يتقابل الخير والشر كما يتقابل الليل والنهار، لا لينفيا بعضهما، بل ليُثريا التجربة الإنسانية ويكشِفا عن معدن الإنسان حين يُخيَّر. كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: “وهديناه النجدين” [البلد:10]، أي بيَّنا له طريقي الخير والشر، فاختياره هو ما يحدد مصيره.
الإنسان ليس آلةً تدار ببرمجة أزلية، ولا دميةً في عرضٍ مسرحي تتحكم بها خيوط القدر وحده. بل هو كائنٌ يقف على مفترق الطرق في كل لحظة، يحمل في قلبه بوصلةً لا تنكسر: الضمير. يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني.” وهذا دليل أن الخير ليس فقط في النية، بل في الفعل، في تحمّل المسؤولية، في أن يكون المرء فاعلًا لا متفرجًا على مآسي العالم.
هو قادرٌ أن يسلك طريق الخير، أن يزرع في الأرض حبًّا، وفي القلوب سلامًا، وفي العيون أملًا. وقادرٌ كذلك أن يختار درب الشر، أن يحرق الزرع ويكسر الأغصان ويُلبس النورَ عباءة الظلام. ولكن في كلا الطريقين، هو مسؤول. كما يقول جان بول سارتر: “الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا”، في إشارة إلى أن الحرية ليست رفاهية بل عبءٌ أخلاقي، يفرض على الإنسان أن يختار وأن يتحمّل نتائج اختياره.
والخير، كما الشر، ليس فكرةً طارئة، بل هو موجودٌ في أصل الوجود، في فطرة الأشياء، في حكايات الأمهات، في دموع النادمين، وفي أحلام الطاهرين. قال رسول الله ﷺ: “الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة”، لتبقى هذه الكلمة نبراسًا في وجه كل من يظن أن الخير قد مات أو تلاشى.
والشر، وإن علا صوته حينًا، لا يمكن أن يطمس النور، لأن الشمعة، ولو وحيدة، تُبدّدُ عتمة غرفةٍ كاملة. وكما قال المهاتما غاندي: “كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.” فالفرد، حين يختار الخير، يغيّر العالم من حوله، ولو شيئًا فشيئًا.
هكذا تستمر الحياة: ظلالٌ تنمو مع الضوء، ودخانٌ يصعد من نارٍ اشتعلت في عمق النفوس، وثمرٌ يتدلى من شجرة قراراتنا. نحن الذين نزرعها، ونحن الذين نختار أن نسقيها أو نقطعها.
فاختر شجرتك، واسعَ أن يكون ظلك بردًا وسلامًا، لا سوادًا يخنق النور.