الرئيسية مقالات كيف تُكتب الرواية؟

كيف تُكتب الرواية؟

171
0

 

الروائية / عبير الرمال

الرواية ليست قرارًا عابرًا يتخذه الكاتب، بل هي موهبة تولد معه، حسّ مختلف تجاه التفاصيل، وعين تبصر ما لا يراه الآخرون، وخيال يتسع ليبني عوالم كاملة من فكرة عابرة. غير أن الموهبة وحدها لا تكفي، إذ تحتاج إلى صقل دائم بالقراءة المستمرة والكتابة المنتظمة، حتى تتحول تلك البذرة الصغيرة إلى شجرة وارفة تؤتي ثمارها

البدايات: من الفوضى إلى الملخص

من يقرر كتابة رواية يكون قد قطع نصف الطريق، أما النصف الآخر فهو الأصعب: أن يحوّل الفكرة الكبيرة المبعثرة في ذهنه إلى ملخص مكثف. الملخص هو امتحان الكاتب الأول، فيه يختصر عالمًا كاملًا في صفحة أو اثنتين، يحدد نقطة البداية ومصير الحكاية، وكأنما يرسم خارطة لطريق طويل

الشخصيات: القلب النابض للحكاية

الرواية لا تقوم بلا شخصيات، فهي الأرواح التي تحمل الفكرة وتبث فيها الحياة. على الكاتب أن يعرف كل تفصيلة عن أبطاله: ماضيهم ودوافعهم وطباعهم الصغيرة. ما الذي يخافونه؟ ما الذي يحلمون به؟ وما العقبات التي ستقف في وجوههم؟ فكلما اشتدت التحديات، زاد القارئ تعلقًا بهم ورغبة في مرافقتهم حتى النهاية.

في رواية الجساس مثلًا، كان “جبير” يسعى لإثبات ذاته وسط مجتمع لا يعترف به. عقباته لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل جراحًا نفسية وصراعات وجودية جعلت القارئ يتساءل: هل سينتصر على قدره، أم يهزمه؟

الانضباط: الكتابة كرياضة يومية

الرواية لا تُكتب على عجل. هي تحتاج إلى وقت ثابت يلتزم به الكاتب يوميًا. أن يخصص ساعة أو ساعتين يكتب فيهما وحدها، ويترك لبقية اليوم فسحة للعيش والتأمل وجمع الأفكار. وما بين المواعيد، يمكن للكاتب أن يدوّن خواطره في ملاحظات أو يسجلها كجملة عابرة، حتى إذا جلس إلى مكتبه وجد نفسه ممتلئًا بما يكفي ليكتب بيسر وسلاسة.

الرواية التاريخية: بين الوثيقة والخيال

أما الرواية التاريخية، فهي تحدٍّ أكبر. تحتاج إلى قراءة مراجع وتراكم معرفة واسعة، لكنها لا تكتفي بسرد الحدث كما وقع. دور الكاتب أن يضيف البعد الإنساني، أن يحيي الشخصيات القديمة بروح معاصرة تجعلها قريبة من وجدان القارئ. فالتاريخ صلبٌ جاف، لكن الرواية تمنحه لحمًا ودمًا وصوتًا ينبض بالحياة.

منابع الإلهام

الأفكار لا تأتي من فراغ، بل من ثلاثة منابع كبرى: التاريخ بما يحمله من أحداث وصراعات، والواقع الاجتماعي بما يزخر به من هموم ومواقف يومية، ثم الخيال الذي يغذيه الاطلاع والموروث الشعبي والفنون. الرواية هي مزيج من تجربة فردية وذاكرة جمعية ورؤية خاصة، ولهذا فإن موضوعًا مألوفًا قد يبدو جديدًا حين يُقدَّم بأسلوب مختلف.

سرّ السرد

السرد هو الروح التي تنفخ الحياة في الرواية. ليس مجرد نقل للأحداث، بل بناءٌ للزمن، وصناعةٌ للمشهد، وإعطاءٌ صوت للشخصيات. ما يميز الرواية الناجحة ليس موضوعها وحده، بل طريقة عرضها: كيف يبدأ الكاتب حكايته، كيف يوزع إيقاعها بين التوتر والسكينة، وكيف يترك القارئ معلَّقًا حتى الصفحة الأخيرة.

الفكرة قد تكون واحدة، لكن السرد يجعلها مختلفة. كم من رواية تناولت العزلة أو الخيانة أو الحب المستحيل، ومع ذلك تظل كل واحدة فريدة لأنها تحمل بصمة كاتبها الخاصة. وهنا يكمن سر الإبداع: أن تحكي القصة نفسها، لكن كأنها تُروى لأول مرة.

كلمة أخيرة

الرواية حلم يمكن أن يبدأ بجملة واحدة، أو بمشهد عابر يُلحّ على الذاكرة. لا تنتظر الظروف المثالية، ولا تخشَ ارتباك البداية. اكتب، وستجد أن الطريق يتفتح أمامك مع كل صفحة. فالرواية لا تحتاج إلى معجزة، بل إلى قلبٍ يؤمن بحكايته وقلمٍ لا يتوقف عن المحاولة.