عبدالعزيز الحسن
في رحلة العمر، نصادف وجوهًا كثيرة، يمر بعضها كنسمة عابرة، ويستقر بعضها الآخر في أعماق أيامنا كظلٍ وفيٍّ أو كجرحٍ مقيم. غير أنّ معيار العلاقة لا يُقاس بطول الزمن ولا بقِصَره، بل بصفائها من شوائب المنفعة، ونقائها من غبار المصلحة.
الصداقة الحقّة، هي زهرة تُسقى بماء المحبة الخالصة، وتُظلَّل بروحٍ نقية لا تنتظر عوضًا، وتبقى ثابتة كالنجم في سماء الليل، لا تتأثر بعواصف الظروف ولا بتقلّبات النفوس. أمّا تلك التي لا تقوم إلا على حسابات المكسب والخسارة، فليست إلا عقودًا مؤقتة، أو “صفقات” مموّهة بوشاحٍ من المشاعر الزائفة.
أشد ما يفسد قدسية الصداقة أن تتحول إلى ساحة مصالح، حيث يُقاس الوفاء بقدر العطاء المادي، ويُختزل البقاء في حدود المنفعة. فإذا جفّت المنابع انقطعت الأواصر، وتحوّل الصديق إلى عابر سبيل، وكأنّ ما كان بينكما لم يكن إلا بندًا في دفتر المكاسب.
من هؤلاء مَن يستشيرك في أمرٍ مصيري، فإن اجتهدتَ ونصحتَ ولم يلتزم بخطوات الصواب، رماك بتبعة فشله، وحمّلك وزر عثرته. وإن نجح، أنكر فضلك، وجعل نفسه صانع الإنجاز الوحيد. وهناك من يتعدّى حدوده، فيسطو على فكرتك، ويسلب مبادرتك، وينسبها إلى نفسه، ظانًّا أنّ السطو حيلةٌ ذكية، وما هو إلا صورة بائسة من الجحود والفقر الروحي.
الصداقة بلا صدقٍ كسماءٍ بلا شمس، والمعاملة بلا احترام كأرضٍ بلا ماء، والعهد بلا وفاء كقلبٍ بلا نبض. كل شيء إن فقد جوهره صار قشرة خاوية، أو صورة جامدة بلا حياة.
الإنسان لا يُوزن بجسده ولا يُقاس بلسانه، بل بما يغرسه من رحمةٍ في القلوب، وما يتركه من بصماتٍ مضيئة في الأرواح. الرحمة هي النور الذي يضيء القلب، فإذا انطفأ غرق في ظلمةٍ قاتمة وإن بدا عامرًا. والوفاء هو سرّ الأرواح، فإذا غاب ذبلت كما تذبل الزهور الظامئة.
الحقائق ليست في زخرف القول، بل في جوهر العمل، وفي الصدق الذي يسكن ما وراء الكلمات. ومن فقد الجوهر، فقد الحياة وإن بدا حيًّا.
فمتى نرتقي لنمنح كل ذي حقٍ حقه؟ ومتى نعترف بأنّ “لكل مجتهد نصيب”؟ إنّ إنكار الجهود وسرقة الأفكار لا يطفئ شمعة الإبداع فحسب، بل يفسد مناخ الحياة، ويزرع في المستقبل بذور الجحود والخذلان.
الصداقة الحقيقية نور لا يخبو، يظل مشعًا في قلب الزمان. أمّا “أصدقاء الصفقات” فسرعان ما ينطفئون بانطفاء مصالحهم، كشرارةٍ عابرة لا تترك إلا رمادًا باردًا.
⸻
جمعة جامعة في شهر الولاء للوطن
⸻






