الرئيسية مقالات مصيون”… حين ينطق الحجر بالحقيقة: الجزيرة العربية مهد الحضارة الأولى

مصيون”… حين ينطق الحجر بالحقيقة: الجزيرة العربية مهد الحضارة الأولى

188
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].

من هذه الآية الكريمة ينطلق وعي الأمة بتاريخها العميق، فمكة ليست مجرد مدينة مقدسة، بل أم القرى ومركز الأرض، وأول بيت وُضع للناس فيها هو الكعبة المشرفة. واليوم، يقف التاريخ أمام شاهد جديد من شواهد الحق: اكتشاف أقدم مستوطنة معمارية في الجزيرة العربية، في منطقة “مصيون” شمال غرب تبوك، ليؤكد أن الجزيرة لم تكن صحراء قاحلة هامشية كما صُوّرت في بعض الروايات، بل أرضًا خضراء نابضة بالحياة، ومهدًا أوليًا للاستقرار البشري والعمران.

تفاصيل الاكتشاف

أعمال التنقيب الأخيرة في “مصيون” أظهرت وجود أبنية حجرية متكاملة، جدران مشيدة بدقة، وحدات سكنية واضحة، أبنية دائرية وأخرى مستطيلة، مما يدل على معرفة متقدمة بفنون البناء. إلى جانب ذلك، عُثر على أدوات حجرية متقنة، وفخاريات بدائية، ومؤشرات تدل على ممارسة الزراعة وتربية الماشية. هذه الأدلة مجتمعة تكشف أن سكان المنطقة لم يكونوا مجرد رُحّل يبحثون عن الماء والكلأ، بل جماعة مستقرة أسست نواة حياة مدنية مبكرة.

الجزيرة العربية… الجنة المفقودة

الاكتشافات الحديثة عبر الأقمار الصناعية وصور الرادار الأرضي أظهرت وجود شبكات قديمة من الأنهار الجافة والبحيرات في عمق الجزيرة. هذه النتائج العلمية تتناغم مع الحديث النبوي الشريف: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا”. وهذا يؤكد أن الجزيرة كانت يومًا ما جنة خضراء، وأن ما كشف في “مصيون” ليس إلا جزءًا من صورة أوسع غابت عن وعي البشرية لقرون طويلة.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف هذه الحقائق بدقة بالغة، في وقت لم يعرف فيه الناس من شبه الجزيرة إلا الرمال القاحلة. واليوم يأتي العلم الحديث ليشهد بصدقه: “وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى”.

قلب العالم… لا أطرافه

لطالما رسّخ الخطاب الغربي أن الحضارة نشأت بين نهري دجلة والفرات أو على ضفاف النيل، ثم امتدت نحو الشام وأوروبا. أما الجزيرة العربية، فقد حُصرت في صورة بدوية صحراوية. لكن اكتشاف “مصيون” يقلب هذه السردية رأسًا على عقب؛ إذ يقدم دليلًا مادياً على أن الجزيرة العربية كانت من أرض المبتدأ لا أرض التابع، ومنبعًا أصيلًا للحضارة، لا مجرد ممر أو هامش.

إن موقع تبوك الاستراتيجي، الرابط بين الحجاز وسيناء والشام ومصر، يجعل من هذه المستوطنة قلبًا نابضًا لشبكة واسعة من التبادلات التجارية والثقافية. وهذا يعني أن سكان “مصيون” لم يكونوا معزولين، بل جزءًا من تفاعل إنساني عالمي، ساهم في صياغة بدايات الحضارة البشرية.

طمس الحقائق… ومحاولة التغييب

لم يكن تغييب دور الجزيرة العربية في التاريخ محض صدفة. لقد بذلت مدارس استشراقية، ومراكز بحث غربية، جهودًا مضنية لترسيخ فكرة أن الحضارة بدأت خارج الجزيرة، متجاهلين الأدلة التي ظهرت تباعًا في نجران، العُلا، ومدائن صالح، واليوم في تبوك. هذه السياسة لم تكن إلا امتدادًا لرغبة قديمة في تهميش مركزية مكة المكرمة، وإخفاء أن الكعبة هي أول بيت وضع للناس.

لكن “مصيون” جاء ليعيد الأمور إلى نصابها، وليثبت أن الجزيرة العربية لم تكن فراغًا، بل بداية. لم تكن صحراء، بل جنة. لم تكن قاعًا منسيًا، بل أصلًا لا يُمحى.

رؤية 2030… استعادة الهوية الحضارية

هذا الاكتشاف يأتي في إطار الجهود الحثيثة لهيئة التراث السعودية التي تسعى لإعادة اكتشاف وتوثيق المواقع الأثرية في مختلف أنحاء المملكة، بما ينسجم مع رؤية 2030 التي وضعت الثقافة والتراث في قلب مشروعها الوطني. إنها ليست مجرد عملية كشف أنقاض، بل عملية إحياء للذاكرة، واستعادة للجذور، واعتراف عالمي بأن الجزيرة العربية هي مهد الاستقرار الإنساني الأول.

خاتمة

حين يُكتشف في “مصيون” أنماط سكن منظمة تعود لآلاف السنين، وحين يكشف العلم أن الجزيرة كانت أرضًا خضراء تعج بالأنهار والمروج، وحين تتطابق هذه الاكتشافات مع الوحي والنبوة، يصبح من العبث الاستمرار في روايات مضللة أرادت طمس مركزية الجزيرة العربية.

إن “مصيون” ليس مجرد موقع أثري، بل شهادة على أن الجزيرة العربية هي أرض البدايات الكبرى. منها خرج أول بيت وضع للناس، ومنها انتشر النور إلى العالم، ومنها سيُعاد رسم خريطة التاريخ الإنساني.