الرئيسية مقالات في اليوم العالمي للترجمة

في اليوم العالمي للترجمة

427
0
بين ضفتين من الكلام، أحتفي اليوم لا بمهنةٍ فحسب، بل بعلاقةٍ حميمة نسجتها مع اللغات؛ علاقةٌ تجعل الترجمة عندي متعة العبور بين ضفتين، وطريقًا إلى أن أكون أقرب إلى نفسي، وأكثر اتساعًا بالعالم.
أحب اللغة الهولندية، تلك التي أتكلمها بطلاقة وأقرأ بها الشعر كما لو كنت أصغي إلى موسيقى غير مرئية، نافذة على ضوءٍ جديد. وفي المقابل، أجد في الإنجليزية أبوابًا أخرى للفكر، وأسفارًا جديدة للكتابة.
وليس الأمر مقتصرًا على اللغات الكبرى وحدها؛ فالتجربة تمتد أيضًا إلى الترجمة بين اللغات المحلية، تلك التي تحمل أصوات الناس وذاكرتهم وحكاياتهم. هنا تصبح الترجمة فعل صونٍ للروح الجماعية، وحفظٍ لذاكرة لا تُرى إلا بالكلمات، ووصالًا بين جذورٍ بعيدة تتلاقى على أرض واحدة.
ومن خلال عملي، تتاح لي قصص وتجارب تنفتح على عوالم لم أكن لأبلغها لولا الترجمة. أكتشف أنني لا أعيش تلك الحكايات، بل أعبر مع أصحابها جسورًا غير مرئية نحو حياتهم، وأتعلّم أن كل لغة تحمل سرًّا، وكل حكاية تُوسّع إنسانيتي، في سدّ فجوات التواصل بين الشعوب الناطقة بلغات مختلفة.
لم تكن الترجمة يوما مجرد نقل كلمات، بل هي طقس تأمّل، ورحلة داخل النصوص، واكتشاف لطبقات الجمال الخفيّة في اللغة. تمنحك حوارًا سرّيًا مع الكاتب، ومع النص، ومع ذاتك أيضًا. تغيّر موقع الكلمة، فتجد أن المعنى انفتح على أفق آخر. تبحث عن التعبير الأدق، فإذا بك تكتشف نفسك في مرآة جديدة.
الترجمة بالنسبة لي فعلُ حبّ: حبّ للغات، للشعر، وللإنسانية التي تسكن وراء الكلمات؛ احتفاءٌ خفيّ بجمالها.
وفي هذا اليوم، أراها جسرًا من نور، تمتدّ خشبته من قلبي إلى العالم؛ جسرٌ أعبره وحدي، لكن على صفحاته تمشي معي آلاف الأرواح، في لغاتٍ تتصافح، ومعانٍ تتعانق، وأحلامٍ تبحث عن وطنٍ جديد في سرّ الكلمات ووصالها.
أكتوبر 2025