بقلم: أحمد علي بكري
في كل عامٍ، حين تُعلن الأكاديمية الملكية السويدية عن الفائز بجائزة نوبل للسلام، تتجه أنظار العالم نحو اسمٍ جديدٍ يُضاف إلى سجلٍ طويل من الأسماء التي يُفترض أنها أسهمت في صناعة عالمٍ أكثر أمنًا وعدلًا. لكن ما إن يُسدل الستار، حتى تتصاعد الأسئلة المُلِحّة: أين ذهبت تلك الجهود الحقيقية التي بُذلت في الشرق؟ ولماذا يُغفل التاريخ العربي والإسلامي عن منصةٍ تُرفع عليها أسماءٌ ربما لم تقدّم سوى خطاباتٍ تُرضي الغرب وتتماهى مع أهوائه؟
لقد باتت الجائزة، التي وُلدت بفكرة نبيلة من عقل الكيميائي السويدي ألفرد نوبل، تُمنح في كثير من الأحيان لأهدافٍ سياسية أو فكرية أكثر من كونها تكريمًا للسلام الحقيقي. يُكرَّم من يرفع شعار “الحرية” بمعناها الغربي، بينما يُتجاهل من قدّم أفعالًا واقعية لحقن الدماء أو إرساء العدالة.
ملوك صنعوا السلام.. ولم ينالوا نوبل
في التاريخ السعودي، أسماء تستحق أن تُسطَّر في كتب الجوائز قبل أن تُكتب في كتب التاريخ.
الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، الذي واجه العالم في زمنٍ مضطرب بثباتٍ وقوة إيمان، حين استخدم سلاح النفط للدفاع عن الكرامة العربية والإسلامية في حرب أكتوبر عام 1973م، فهزّ ضمير العالم وأثبت أن السلام لا يتحقق إلا بالعدل لا بالاستسلام. كان جديرًا أن تُمنح له نوبل تكريمًا لموقفٍ أعاد التوازن إلى ميزان القوة، لكنه رُحل قبل أن تكرمه لجنةٌ لا ترى إلا من خلال منظارها الغربي الضيق.
الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، الذي واجه واحدة من أخطر اللحظات في تاريخ الخليج، حين اندلعت أزمة احتلال الكويت عام 1990م. وقف بحكمة القائد وحنكة رجل الدولة، فقاد موقفًا تاريخيًا حال دون انهيار منظومة الأمن الخليجي، وأوقف كارثة كانت ستشعل المنطقة بأكملها. قاد جهود المصالحة، وأطلق برنامج إعادة إعمار الكويت، وساهم في حفظ التوازن العربي والدولي، ليُعرف لاحقًا بلقب “ملك الحزم والسلام”. ولو كانت الجائزة تُمنح بمعيار الأفعال لا الأهواء، لكان أول من يعتلي منصتها.
الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بمبادرته الشهيرة للسلام العربي عام 2002م، التي لاقت تأييدًا أمميًا واسعًا، ودعوته التاريخية إلى حوار الأديان والثقافات، وهو مشروع رائد في عالمٍ تمزقه الصراعات الفكرية والعقائدية. ومع ذلك، لم يُذكر اسمه ضمن قوائم المرشحين، وكأن صوت الحكمة لا يُسمع إلا إن جاء من الغرب.
الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، من خلال مبادرات السلام في اليمن والسودان والمصالحة الخليجية، وسعيهما المتواصل لتحقيق التوازن بين الاستقرار الإقليمي والتنمية العالمية، في زمنٍ تتشابك فيه المصالح وتتنازع فيه القوى الكبرى.
نوبل.. من منبر السلام إلى منصة الأهواء
لم تعد الجائزة مرآةً صافية تعكس صورة العدالة العالمية، بل تحولت – في كثير من الحالات – إلى أداةٍ ناعمة للتأثير الثقافي والسياسي. تُمنح أحيانًا لمن يروّج لأفكار تتعلق بما يسمى “التحرر الاجتماعي” أو “الحقوق الجندرية”، أكثر من اهتمامها بإيقاف الحروب أو إنهاء المجاعات أو رفع الظلم. وكأن السلام أصبح مفهومًا انتقائيًا يقتصر على من يتوافق مع الأهواء الغربية، لا من يزرع بذوره الحقيقية في أرض الواقع.
السلام الحقيقي لا تمنحه جائزة
لقد أدركت المملكة منذ تأسيسها أن السلام لا يُمنح من الخارج، بل يُبنى بالعدل، والحكمة، والاعتدال. سلامٌ يترجم في حماية الحرمَين الشريفين، ورعاية الحجاج، ومساعدة الدول الفقيرة، واستضافة النازحين، وإطفاء حرائق النزاعات.
إن جائزة نوبل ليست المقياس الأوحد للإنسانية، فالتاريخ هو الحكم العادل، والضمير هو المنبر الحقيقي الذي يخلّد أسماء العظماء.
فكم من رجلٍ حفر مجرى السلام بيده، لكنه لم يلبس الميدالية الذهبية! وكم من آخرٍ اعتلى المنصة خطيبًا بالكلمات، ثم أشعل الحروب بعد نيله الجائزة!
مقترح لإعادة تعريف السلام في المفهوم العربي
السلام في المفهوم العربي ليس مجرّد هدنة بين خصمين، بل هو حالة من العدل تمنع الظلم قبل أن تفرض الصلح. هو أن تُنصف المظلوم، وتكبح المعتدي، وتزرع الأمل بدلًا من الفوضى. ومن هذا المنطلق، فإن العالم بحاجة إلى أن يتعلم من التجربة السعودية أن السلام فعلُ مسؤوليةٍ لا دعاية، واستقرارٌ لا خنوع.
ختامًا
قد تُمنح نوبل للسلام، لكنها لن تمنح السلام ذاته. أما نحن، فلدينا رجالٌ بنوا حضارة وسلامًا بلا جائزة، لأنهم لم يسعوا إلى التصفيق، بل إلى رضا الله وخدمة الإنسان.
ولعل التاريخ حين يُنصف، سيكتب أن في أرض الحرمين رجالًا كانوا نوبلًا بأفعالهم وإن لم يحملوا اسمها.






