الرئيسية الأدب والشعر ظلّ الموسيقى

ظلّ الموسيقى

85
0

 

بقلم: إبراهيم المنسي –

مملكة البحرين/

صدى نيوز إس

في كلِّ مساءٍ،

حين يسكنُ الضجيجُ وتغفو المدينةُ على أنفاسها الأخيرة،

أجلسُ قربَ جهازٍ قديمٍ يشبهُ صندوقَ الأسرار.

أضعُ أسطوانتي المفضّلة،

فتنطلقُ الألحانُ ببطءٍ، كما لو أنّ الزمنَ يستيقظُ من نومٍ طويل.

 

كانت الموسيقى تملأ المكانَ برفقٍ،

تدورُ في الغرفة مثل عطرٍ منسيٍّ يبحثُ عن صاحبه.

وكنتُ أغمضُ عينيّ،

لأسمعها كما لو أنها تُعزفُ في داخلي لا من مكبّر الصوت.

هناك، في عمقِ الصمت،

كنتُ أسمعُها واضحةً، نقيّةً،

كأنَّها تخرجُ من قلبي وتعودُ إليه.

 

كانت هي تحبُّ الموسيقى أكثرَ من الكلام،

تقول دائمًا: “اللحنُ أصدقُ من الجُمل،

فهو لا يحتاجُ إلى مبرّرات.”

كنتُ أضحكُ،

لكنّني اليوم، بعد أن غابت،

أفهمُ ما كانت تقصده تمامًا

فكلُّ نغمةٍ صارت تحملُ ملامحَها،

وكلُّ مقطعٍ موسيقيٍّ صار يشبهُ تنفّسَها بين الضحكات.

 

أحيانًا، أسمعُ النغمةَ الأخيرة تتكرّر في رأسي،

ولا تنتهي.

كأنّها ترفضُ أن تموت.

حتى بعد أن يتوقّفَ العزف،

يبقى هناك ظلٌّ للموسيقى،

خفيفٌ كالحلم،

يملأُ الفراغَ بين القلبِ والذاكرة.

أتذكّرُ ليلةً بعيدة،

كنا نجلسُ قربَ النافذة والمطرُ يعزفُ بالخارج.

قالت لي وهي تضعُ رأسَها على كتفي:

“حين نموت، سأكونُ نغمةً في الموسيقى التي تحبّها.”

ضحكتُ يومها من فرطِ الشجن،

لكنّي اليوم أسمعُها كلّما عزفتُ اللحنَ ذاته.

كأنَّ وعدَها ما زالَ قائمًا،

كأنَّها عادتْ في صورةِ موسيقى لا تنتهي.

أحيانًا أظنُّ أن الله خلقَ الموسيقى

ليمنحَنا طريقةً أُخرى للبكاء دون دموع،

وللحبّ دون اعتراف.

فالنغمةُ، حين تدخلُ القلب،

تُعيدُ ترتيبَ الحنين فيه بهدوء،

كمن يُصلحُ ساعةً توقّفَت عن النبض.

 

الموسيقى لا تعزفُ فقط على الأوتار،

بل على خيوطِ الوقت.

هي ذاكرةٌ سماعية،

تُعيدُ لك كلَّ ما فقدتَه دون أن تراه.

تذكّرُك بمن كنتَ،

وتهمسُ في أذنك أنَّ الجمالَ لا يزول،

بل يتخفّى في الأصواتِ التي لم نعد نسمعُها إلا حين نصمتُ تمامًا.

وحين ينتهي اللحن،

لا أنطفئ.

أتركُ الجهازَ ساكنًا،

لكنَّ الموسيقى تستمرُّ داخلي.

كأنَّ الصمتَ صارَ امتدادًا لها،

كأنَّها لم ترحل بل غيّرتْ شكلها.

وفي كلِّ مرةٍ أغلقُ فيها عينيّ،

أسمعُ لحنًا لا يعرفُ أحدٌ من أين يأتي.

ربما من ذاكرتها،

وربما من قلبي الذي تعلّمَ أخيرًا

أن يعزفَ وحده…

حين يصغي إلى ظلِّ الموسيقى.