الرئيسية مقالات إذا ضعت روح المسجد

إذا ضعت روح المسجد

173
0

بقلم/ حارث بن علي العسيري :مكة المكرمة 

قال الأب لابنه:
“يا بُني، إذا ضعت… روح المسجد.”
استوقفتني هذه العبارة في تغريدة على منصة X للأستاذ عصام الفلالي فأبحرت بمعانيها وبقصتها فكتبت هذا النص
لم يفهم الصغير المعنى يومها، لكنه حفظ العبارة كوصيةٍ من ذهب. ومرّت الأيام، حتى صار رجلًا تتقاذفه الحياة بين مشاغلها وهمومها، وبين فقدٍ داخلي لا يعرف له اسمًا. وحين ضاقت عليه الأرض بما رحبت، تذكّر صوت أبيه، فمشى نحو المسجد كمن يعود إلى وطنٍ قديم نسيه طويلًا.
دخل المسجد، فاستقبله عبير السكينة قبل أن يسمع الأذان، رأى وجوهًا لا يعرفها لكنها مطمئنة، ورأى طفلًا يركض بين الصفوف، وشيخًا يسبّح بدموعٍ صامتة، وشابًا يحمل مصحفًا بين يديه كأنما يحمل قلبه. وجلس في الركن، ثم سمع الإمام يتلو قوله تعالى:
“أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.”
فبكى دون أن يدري لماذا بكى.
المسجد يا بُني ليس مكانًا، بل حالة. ليس بناءً من حجر، بل بناءً للروح.
فيه يلتقي الناس لا ليعرف بعضهم بعضًا، بل ليعرفوا أنفسهم بين يدي الله.

قال النبي ﷺ:
“سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله… ورجل قلبه معلّق بالمساجد.”
ذلك القلب الذي لا يرتاح إلا إذا سمع الأذان، ولا يهدأ إلا حين يضع جبهته على الأرض.
وفي زمنٍ مضى، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمرّ فيرى أهل السوق منشغلين، فيقول: “اللهم لا تجعل أرزاقهم سببًا في غفلتهم عن بيوتٍ أذنت أن تُرفع.” وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا توضأ توضأ وضوءًا كاملًا وقال: “إني لأجد برد السلام بعد الطهور.” ثم كان أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج منه.
المسجد كان قلب المدينة النابض، منه تُدار شؤون الأمة، وتُعلَّم القيم، وتُغرس الأخلاق. فيه تخرّج الصحابة لا بشهاداتٍ بل بصفاء النية، لا بالخطابات بل بالسجود الطويل.
كان الطفل يدخل المسجد فيتعلم الأدب قبل العلم، فإذا نطق نطق بالسلام، وإذا جلس جلس بخشوع، وإذا رأى كبيرًا بادره بالاحترام. وكانوا يرون أن من فقد أدب المسجد فقد نصف دينه.
اليوم حين تمرّ في بعض المساجد ترى الزخارف كثيرة، والأصوات عالية، والمقاعد فاخرة… لكن الأرواح متعبة. وكأننا نسينا أن المسجد لم يكن عظمةَ بناء، بل عظمةَ سكون.
كانوا يقولون: “إذا رأيتَ في المسجد من يسأل عن الله، فاعلم أن روح المسجد ما زالت حيّة.”
أما إذا خمدت الهمم وابتعد الناس عن السجود، فهنا تبدأ الغربة الحقيقية، لا غربة المكان، بل غربة الإيمان.
يا بُني، إذا شعرت يومًا أنك غريبٌ في بيتك، أو حزينٌ بلا سبب، أو ضائع الاتجاه… فارجع إلى المسجد.
ادخل دون أن تبرر، وصلِّ ركعتين دون أن تطلب شيئًا، فقط كن هناك.
ستسمع في داخلك جوابًا أقدم من السؤال، وستدرك أن كل الطرق التي تبتعد عن المسجد تنتهي إلى التيه، وكل الطرق التي تعود إليه تبدأ من النور.

قال أحد الحكماء:
“من ضيّع المسجد، ضيّع روحه، ومن وجد المسجد، وجد نفسه.”
يا بُني… إذا ضعت، روح المسجد.
فثَمَّ الله، وثَمَّ السلام الذي تبحث عنه منذ زمن.