بقلم الدكتور مازن إسماعيل محمد _ مكة المكرمة
في قلب التطورات الحديثة في الكيمياء، يبرز توجه جديد يسعى إلى محاكاة سلوك الكائنات الحية باستخدام جزيئات ذكية قادرة على التنظيم الذاتي، والتفاعل الديناميكي، وحتى “الاستجابة” للبيئة المحيطة بها. هذا التوجه لا يهدف فقط إلى فهم الحياة، بل إلى إعادة إنتاجها كيميائيًا في المختبر. ومن بين أبرز أدوات هذا التوجه، يظهر ما يُعرف بـ “الوقود الكيرالي” كعنصر محوري في بناء أنظمة كيميائية تُحاكي العمليات الحيوية بدقة مذهلة.
الوقود الكيرالي هو جزيء يتمتع بخاصية “اليدوية” أو chirality، أي أنه لا يتطابق مع صورته في المرآة، تمامًا كما تختلف اليد اليمنى عن اليسرى. هذه الخاصية تمنحه قدرة فريدة على توجيه التفاعلات الكيميائية بطريقة انتقائية، مما يجعله مثاليًا لتكوين هياكل مؤقتة داخل أنظمة غير متزنة. هذه الأنظمة، التي لا تصل إلى حالة استقرار نهائي، تُشبه إلى حد كبير البيئة الداخلية للخلايا الحية، حيث تُستهلك الطاقة باستمرار للحفاظ على التنظيم البنيوي والوظيفي.
عند إدخال الوقود الكيرالي في مثل هذه البيئات، تبدأ الجزيئات في التجمع ذاتيًا لتكوين هياكل فوق جزيئية مثل الأنابيب النانوية أو الأغشية أو القنوات. هذه الهياكل لا تدوم طويلًا، بل تتفكك تلقائيًا عند نفاد الوقود، في سلوك يُحاكي تمامًا ما تفعله الخلايا في العمليات الحيوية. هذا التفاعل المؤقت يُعد خطوة ثورية نحو تصميم مواد ذكية تستجيب للحرارة أو الضوء أو التغيرات الكيميائية، وتُغيّر شكلها أو وظيفتها حسب الظروف المحيطة.
الأبحاث الحديثة تُظهر أن الوقود الكيرالي لا يُحفّز التجمع الذاتي فحسب، بل يُوجّه شكل هذه التجمعات لتكون يمينية أو يسارية، مما يُضفي عليها خصائص تُشبه البروتينات أو الأغشية الحيوية. كما يمكن التحكم في مدة وجود هذه الهياكل عن طريق كمية الوقود، مما يفتح الباب لتطبيقات دقيقة في الطب والبيئة.
من خلال هذه التقنية، يمكن تطوير أدوية موجهة تعمل فقط في بيئة معينة داخل الجسم، أو أنظمة تنقية مياه تُحاكي الطبيعة، أو أجهزة استشعار بيئية تعتمد على وقود كيميائي غير ضار. كما أن تقليد آليات التنظيم الذاتي في الكائنات الحية يُمهّد الطريق لمواد قابلة للتحلل، تُساهم في بناء مستقبل أكثر استدامة.
ما يُدهش في هذا المجال ليس فقط القدرة على التحكم في الجزيئات، بل في جعلها “تفكر” بطريقة تُحاكي الحياة نفسها. الوقود الكيرالي يُعيد تعريف العلاقة بين الكيمياء والطبيعة، ويُثبت أن التنظيم، حتى في الفوضى، يمكن أن يكون نابعًا من تصميم ذكي. هذه ليست مجرد كيمياء، بل بداية لفهم جديد للحياة من منظور جزيئي، يُلهم الباحثين لتجاوز حدود المختبر نحو ابتكارات تُغيّر وجه العالم.






