الرئيسية الإبداع الأدبي العَـــــــواء

العَـــــــواء

98
0

مونودراما سوداء  بقلم بلعربي خالد _هديل الهضاب

الشخصية الوحيدة: خمّار الليل

(رجل في منتصف العمر، كرشٌ كالبطيخة، أنفٌ كبير كالمسبار، يرتدي معطفًا مهترئًا وقميصًا مفتوح الأزرار. في يده قنينة نبيذٍ )
(ضوء خافت، موسيقى كمانٍ متعبة تئنّ في الخلفية. خمّار الليل يدخل مترنّحًا، يحدّث القنينة كما لو كانت أنثى يعرفها منذ دهر.)

خمّار الليل:
ها أنتِ مجددًا، يا سيدة النسيان، يا خمرتي
أهلاً يا قنّينتي الحمراء… يا مرآتي حين تغيب المرايا.
أتعرفين؟ أنتِ الوحيدة التي تُصغي إليّ حين أتكلّم عن المُلك،
أنا الملك! ملكُ الكؤوس الفارغة والرؤوس الممتلئة بالهواء!
(يشرب، يتمايل ضاحكًا ثم يهمس)
من نسل بني كلبون الآدمية أنا،
عشنا مع الذئب حتى صار فينا العواءُ سُلالةً،
نصفنا بشر، نصفنا ذئب في ليلٌ يعوي ولا يسمعه أحد.
(ينظر نحو الجمهور كمن يبحث عن اسمه)
لكن انا.. ما اسمي؟
نسيتهُ في قاعِ الكأس، أو ربما في جيبٍ بلا سروال!
(يحاول رفع سرواله، يفشل ويضحك)
انظُروا إليّ! لا أستطيع رفع سروالي،
ومع ذلك أرفع العالمَ كلّ ليلةٍ بنشوةٍ زائفة!
(يجلس، يحدّث القنينة بعينين زجاجيتين)
في الصباح… تجدينني نائمًا قرب المسجد،
مُتيبّسًا كاللوح، أبيض كجليد الفجر،
والناس يمرّون بي كما يمرّون على خطأٍ قديمٍ او بقاي قمامة او خردة .
(يضحك، ثم بنبرة تهكمية جادة)
عليك أن تفهمي يا قنينتي العزيزة،
أنّ بين هؤلاء الناس من يرفع رأسه ليتظاهر بأنه يرى الضوء،
ومن يُنزل رأسه كي لا يرى عَتمته.
كلاهما أعمى… لكن أحدهما يكتبُ مقالات،
والآخر يكتبُ صلواته على جدران الحمّام!
(يتنهد)
ثم هناك أصحاب الشعر الطويل…
يقولون إنهم أحرار،
لكن حريّتهم تفوحُ برائحةٍ لا تُغتفر!
أحدهم قال لي: “المجد للفوضى!”
فقلت له: “اغسل قميصك أولاً، ثم تحدّث عن المجد
(يشرب رشفة طويلة، يغمض عينيه، صوت ناي بعيد يبدأ بخفوت)
أما سميرة… آه سميرة!
كانت تمشي كأنها تُحرّك الوقت بخصرها،
قبعتها الحمراء بخيوطها الذهبية…
تلمع كطُعمٍ للحلم.
(بصوتٍ دافئ، متماوج)
كنتُ أظنّها تنظر إليّ،
لكنها كانت تنظر إلى الضوء المنعكس على زجاج السيارات.
كانت تبيع الأملَ في إشارات المرور،
وأنا أشتري منها نظرةً بثمنِ قنّينة.
(يضحك ثم يهمس بحنين)
لياليّ معها كانت مثل أغنيةٍ غير مكتملة،
نغمةُ البداية أجملُ من النهاية.
كانت تقول لي: “سنبني بيتًا بلا جدران”،
قلت: “ومن يمنع الريح؟”
فقالت: “الريح صديقي، يعزف على قلبي منذ كنتُ طفلة.”
(صمت، يُسمع من بعيد صوت آلة وترية حزينة)
قالوا: إنها أجملُ من أن تُحبّني،
وأنني قاتلُ الكلاب ،
لكني لم أقتل سوى الوقت…
وأحيانًا نفسي،
ببطءٍ، بكأسٍ، بابتسامةٍ في غير وقتها.
(ينهض، يتقدّم خطوة، يرفع القنينة كأنها صولجان)
عليك أن تفهم، يا من تسمعني الآن،
أننا لا نعيش… بل نُدرّب أنفسنا على الموت بأدب.
نشربُ كي ننسى، وننسى كي نُواصل،
ونُواصل كي نُبرّر أننا ما زلنا أحياء.
(يصمت، ثم بصوتٍ أقرب إلى الغناء الحزين)
يا نبيذَ القلبِ الرديء،
يا رفيقي في ليلٍ بلا نجوم،
كم مرّةٍ وعدتُكِ أن أتوب؟
(ينظر إلى السماء)
ربما الليلة… أو غدًا… أو حين تنفد القنينة.
(يضحك وضحكةً تختنق في صدره، ثم بصوتٍ واهنٍ متأمّل)
كلنا يا سادتي…
سكارى بشيءٍ ما:
بالحُب، بالمال ،بالسعادة، بالوهم، بالذكريات.
الفرق فقط في الثمن…
بعضنا يدفعُ بالكأس، وبعضنا بالدّم.
(ينظر إلى القنينة لحظة، يضعها على الأرض برفق.)
وداعًا يا خمّارتي الصغيرة…
سأجرّب أن أعيش الليلة بلاكِ،
فإن متُّ… أعترف لكي اني أحبكي:و
“هنا يرقدُ الذي عوى كثيرًا… ثم صمت.
(يُطفأ الضوء على وجهه تدريجيًا بينما يتلاشى صوت الناي في خلفيةٍ بعيدة.)

نهاية