مستشارة الجودة و التميز المؤسسي/ د. ميسان علي بُخاري، جدة
يحتفي العالم في هذا الوقت من كُلِ عام باليوم العالمي للجودة. و يأتي شعار هذا العام :
( الجودة فِكر بطريقة مُختلفة)، لِيُؤَكِد على دور الجودة بجميع نُظُمها و مواصفاتِها و معاييرها في الارتقاء بالفِكر و توجيهِه و جعله فِكراً مُؤسَسِياً، استراتيجياً، مُتَسِقَاً، مُوائِماً، استباقياً، مَرِناً رشيقاً، لقيادة المنظمات بكل كفاءة. و إدارتها بكل فاعِلِيّة. في عالم “فوكا “VUCA المُتَسِم بالتقلُب Volatility كما يُشير الحرف V و التغيُر السريع الذي يجعل التنبؤ بالأحداث القادمة صعباً Uncertainty الدال عليه الحرف U، و التعقيد Complexity بجانب الغموض Ambiguity و غياب الوضوح في تفسير الأحداث مع تعدُد و تشابُك العوامل و المتغيرات المؤثرة في الموقف. في عالم يتسِم بكل ذلك، تُصبح استمرارية أعمال المنظمات و استدامتها تحدياً كبيراً. و تُصبح الجودة الشاملة و التميُز المؤسسي إلزامياً و ليس خياراً أو رفاهية. و يصبح السؤال هنا: هل العالم الذي نعيش فيه اليوم هو “عالم فوكا” ؟
و بالنظر قليلاً لما حولنا و ما نعيشه و نقابله كل يوم، يأتي الجواب بنعم. نعم إن العالم الذي نعيشه اليوم هو عالم فوكا، بكُل التحديات المتزايِدة التي تواجه الأفراد و المنظمات و النمو المتسارِع و السعي المحموم للبقاء، مع ضبابية الرؤية المستقبلية وعدم يقين الكثير من المنظمات تجاه قدراتها و مدى ما يمكنها التصدي له و إلى متى.
إن الإيمان بالجودة الشاملة المَرنة و تبنيها و تطبيق نُظُمِها و مواصفاتها لهو الركيزة الأولى و الأرض الصلبة التي يُبنى عليها التميُز المؤسسي بكل معاييره، و اللذان بِهِما تستطيع أي منظمة الوقوف و بقوة أمام جميع التحديات. فالمنظمة ذات الرؤية الواضحة الشاملة القوية و المُبسطة، القادرة على الفهم الصحيح و العميق لواقعها و للبيئة المحيطة بما فيها من منافسين عن دراسة واقعية علمية نتج عنها إدراك واعي لمحركات المتغيرات الموجودة، و وضوح كامل للعلاقات بينها و بين المعنيين داخلياً و خارجياً، بالإضافة إلى مرونة مُناسبة تعينها على التكيُف و الاستجابة السريعة للمتغيرات لهي منظمة قادرة على المضي قدماً في عالم فوكا. و كل ذلك يتحقق لأي منظمة بتطبيقها لنظم الجودة المناسبة لها و يأتي في المقدمة إيمان القيادة العليا بذلك. فيكون التوجيه نابعاً من قبلها ليتغلغل إلى كل جزء من أجزاء المنظمة القائمة على قيم وأخلاقيات الجودة. فعلى كل منظمة ساعية نحو التميُز أن تركز على ما تريد، ما الأمور المهمة بالنسبة لها، ما يمكنها عمله و التحكم فيه حسب المعلومات المتوفرة لها من البيئة المحيطة، و التحرك نحو اتخاذ القرار بناءً على المُتاح، وأن تكون استباقية. لديها خطط استراتيجية و نظام شامل لإدارة المخاطر، وأثناء العمل و الممارسة ستتعلم كمنظمة وتكتشف وتبتكر، و قد تسبق أقرانها والمنافسين بسبب أخذها خطوات استباقية. و بالتالي فالمنظمات في عصرنا الحالي حتى تستطيع البقاء و المنافسة لابد أن تكون مرنة و ديناميكية قابلة لاحتضان التغيير حتى على مستوى أدوات الجودة. و تبني التحول الرقمي و الذكاء الاصطناعي اللذان أصبحا ضرورة للنمو المتسارع لخلق قيمة إضافية للعملاء. ليس تلبية توقعاتهم فقط بل إبهارهم. و ذلك لن يأتي إلا بالتركيز على آليات الجودة الحديثة المرنة ذات التحسين المستمر للعمليات و التحديث المستمر لسلاسل القيمة على جميع مستويات الأنشطة الرئيسية و المُسانِدة.
و قد شهدت السنوات الأخيرة تحولاً جوهرياً في فهم الجودة حيث تحولت من : النموذج التقليدي (الجودة = خلو المنتج من العيوب) إلى نموذج أكثر شمولية و هو (الجودة = تحقيق القيمة للمستخدم).
لماذا : لأن التغيير اليوم و عدم الاستقرار أصبح هو القاعدة. و يؤكد تقرير الاتجاهات العالمية أن المؤسسات التي تركز على مفهوم “user value” بدلاً من مؤشرات الأداء التقنية فقط، تحقق نتائج أفضل في الامتثال و الجودة. فالجودة في المنظمات العصرية المرنة هي جودة مرنة “Agile Quality ” تعني التكيف السريع و القدرة على الابتكار المستمر، و تحقيق القيمة للعميل في بيئة غير مستقرة. و بعبارة أخرى تعني قدرة المؤسسة على تحقيق قيمة مستمرة للعميل رغم التغيير. هذا التعريف الجديد للجودة يضع القيمة المُدركة للعميل في قلب المعادلة متجاوزاً المقاييس التقنية التقليدية. فالجودة لم تعد مجرد غياب العيوب بل هي القدرة على تقديم قيمة متجددة و متطورة تلبي التوقُعَات المتغيرة.
كذلك المنتج أو الخدمة مهما كانت خالية من الأخطاء تقنياً إذا لم تحقق قيمة حقيقية للعميل فلا تُعدّ عالية الجودة.
سمات البيئة الديناميكية الحديثة :
• توقعات العملاء المتغيرة باستمرار.
• الحاجة إلى استجابة سريعة و تجربة مستخدم متميزة.
• زيادة تقلُب السوق و تنوع المنافسين.
• تسارُع الابتكار التكنولوجي و التحوُل الرقمي
خصائص الجودة المرنة في البيئات الرشيقة :
• سرعة الاستجابة 🙁 القدرة على الاستجابة الفورية لمتطلبات العملاء و السوق مع اختصار لدورات التطوير المستمر للقيمة).
• فِرق ذاتية التنظيم :(تمكين فِرق العمل من اتخاذ القرارات المتعلقة بالجودة بشكل مستقل مع مسؤولية جماعية عن النتائج و ملكية كاملة للمنتج).
• التحسين اللحظي: و يعني( دمج آليات التحسين المستمر في كل مرحلة من مراحل العمل و في كل أنشطته، مع التركيز على التعلم من كل تجربة و الاستفادة من التغذية الراجعة و تطبيق الدروس المستفادة فوراً.
• نمو و تعلُم مستمر: ( بناء ثقافة التعلُم المؤسسي من خلال التجربة و الخطأ، و تدوير المعرفة مع تشجيع الابتكار والمخاطرة المحسوبة و استخلاص المعرفة من كل تجربة).
إذاً فالمرونة تكمُن في الاستجابة السريعة و الجودة تضمن الثبات في مستوى القيمة و الدمج بينهما هو ما يُوجد التطور و الاستمرارية. و قد أشير لدى بعض الدارسين حول ((Agile Quality Attribute,2025 أن فِرق التطوير التي تبنت هذه الخصائص الأربعة بشكل مُتكامِل زادت من معدل الابتكار بنسبة 25%، و حسّنت جودة المخرجات بنسبة 32%.
ونخلُص إلى أنه في عصر تتسارع فيه و تيرة التحوُل الرقمي و الذكاء الاصطناعي و تتغير فيه توقعات العملاء بشكل متواصل، يُصبح دمج نُظُم الجودة مع المرونة التنظيمية ضرورة استراتيجية لا خياراً.
إن العالم يتغير، فلماذا نظل على نفس الأدوات و النُظُم ؟! لِمَ لا نٌغير طريقة تفكيرنا و نغير أدواتنا ؟!
التغيير ضرورة حتمية و إلا ف (مكانك دُر)






