ا/محمد باجعفر
جازان /صدى نيوز إس
هكذا يبدو الحب حين ينجو من السنين، حين لا تصنعه الكلمات ولا الهدايا، بل المشي معًا في كل صباح ومساء، بل الصمت الذي يعرف كيف يكون حضوره أعمق من أي كلام.
يبدأ اليوم بضوء الفجر، شمسٌ خجولة تتسلل عبر النوافذ، لتداعب وجوههما كما لو كانت تعلم أنهما لم يعودا يحتاجان إلى كلمات ليشعر كل منهما بالآخر.
هي تفتح عينيها لتجد وجوده قريبًا، ولو لم ينطق أي شيء، يكفي أن تشعر بوجوده، بخطواته التي تعرفها دون أن يراها، وبالتنفس الذي يملأ الغرفة بهدوء.
هو يبتسم لها دون أن تتكلم، يكفي أن يرى حركة يدها، أو انعكاس وجهها على الحائط، ليعلم أن كل شيء على ما يرام، وأن الحب الذي يصمد لا يحتاج إلى إثبات.
يمر الصباح في تفاصيل بسيطة، كوب قهوة على الطاولة، خبز ساخن، رائحة الزهور التي لم يشترياها اليوم، لكنها موجودة دائمًا في المكان، كما لو أن الحب أصبح جزءًا من الأشياء الصغيرة نفسها، جزءًا من الهواء الذي يتنفسانه معًا.
يمر الحديث بلا ضجة، ضحكات قصيرة تتسلل بين الصمت، لمسات صغيرة تمر على اليدين والكتفين، نظرات تفهم كل شيء دون سؤال.
هذه التفاصيل الصغيرة، لا يراها أحد، لكنها تكفيهما لتعرفا أن كل شيء قد اكتمل، وأن كل لحظة هادئة تحمل معها حياة كاملة.
مع الظهر، يخرجان للمشي، في شارع يعرفانه منذ سنوات، كل حجر فيه يحمل ذكرى، كل زاوية تذكرهما بضحكة قديمة، بخلاف قديم، بلحظة شعرا فيها أنهما شيء واحد.
يمشيان ببطء، أحيانًا يمسكان بعضهما، أحيانًا يتركان المسافة، فقط ليشعر كل منهما بالآخر دون ضغط، فقط وجود، فقط يقين.
يتوقفان عند مقعد في الحديقة، يستمعان للطيور، يتحدثان قليلًا عن الماضي، عن أصدقاء رحلوا، عن أحلام صغيرة لم تتحقق، ثم يعود الصمت ليملأ المكان، صمتٌ ممتلئ بالطمأنينة، بالوفاء، بالحب الذي لم يعد يحتاج إلى أي زينة.
مع العصر، يجلسان في المنزل، أحدهما يقرأ، والآخر يكتب، أو ينظر من النافذة، يراقب الضوء الذي يتغير، كيف يصبح الذهبي أكثر دفئًا، كيف تتسلل الظلال لتخبرهما أن النهار سينتهي قريبًا.
وفي كل حركة، في كل همسة، في كل تنفس، الحب موجود، يعبّر عن نفسه بصمت، لا يعلن حضوره، لكنه حاضر بلا شك، بلا تردد، بلا شروط.
مع الغروب، يطبقان ستائر البيت جزئيًا، ويجلسان على الأريكة معًا، يراقبان كيف يختفي الضوء تدريجيًا، كيف يصبح الجو هادئًا، كيف يترك كل شيء في مكانه، وكيف يترك الحب ذاته في مكانه، صامتًا، ثابتًا، عميقًا.
يتبادلان الذكريات بصوتٍ خافت، يضحكان أحيانًا، يتذكران صخب الأيام الأولى، ويتأملان الآن هدوء اليوم العادي الذي أصبح أكبر من أي إثارة مضت.
ومع حلول الليل، يذهبان للنوم جنبًا إلى جنب، دون كلمات، دون شعارات، فقط شعورٌ بالأمان، بشيء لم يعد يحتاج إلى إثبات.
كل حركة صغيرة، كل نفس، كل لمسة على الكتف أو اليد، تقول: “أنا هنا، لا شيء يمكن أن يبعدنا.”
الحب بعد السنين لا يحتاج إلى صخب، هو نهر هادئ، يملأ حياتهما، يمرّ في كل التفاصيل، في كل الصمت، في كل اهتمام صغير، في كل ضحكة بلا سبب، في كل عتاب بلا جرح، في كل طمأنينة بلا خوف.
وفي هذه اللحظات الأخيرة من اليوم، حين تغيب الكلمات، وتذهب الشمس، ويصبح الليل صديقًا هادئًا، يظل الحب حيًا، صامتًا، عميقًا، ثابتًا، يعيش في أصغر التفاصيل، في أقل الحركة، في أصغر نفس، في وجود الآخر الذي أصبح وطنًا لكل لحظة.
هو الحب الذي تعلّما أن يمشي معًا فيه، أن يعيش، أن يحتمل، أن ينتظر، أن يعيد اكتشاف التفاصيل، أن يحتفل باليوم العادي كما لو أنه حياة كاملة، وأن يظل كل يوم فرصة ليتعلما مرة أخرى معنى البقاء معًا، معنى الوفاء، معنى أن الحب بعد السنين هو كل شيء، وكل شيء فيه.






