بقلم /محمد باجعفر
جازان /صدى نيوز إس
هو ليس حدثًا اجتماعيًا، ولا موقفًا عابرًا، ولا انكشافًا شخصيًا فقط؛
إنه لحظة وجودية، لحظة تتصدّع فيها تصوّراتك عن العالم، ويتهشّم فيها أكثر ما كنت تظنه ثابتًا،
لحظةٌ يعاد فيها تشكيل وعيك بطريقة لا يمكن الرجوع عنها،
كما لو أن روحك خرجت من غفلتها وأدركت أن الحقيقة ليست ما يُقال لك، بل ما يتسرّب من بين الكلمات،
وليس ما تراه، بل ما يتخفّى خلف ما تراه.
في الفلسفة، سقوط الأقنعة ليس كشفًا للآخرين بقدر ما هو كشفٌ للذات.
فالإنسان لا يُخدع بالوجوه بقدر ما يُخدع برغبته في ألا يرى.
نحن لا نُصدّق الأقنعة لأن أصحابها بارعون…
نحن نُصدّقها لأن داخلنا جزءًا يريد أن يطمئن، يريد أن يؤمن بأن الطيبة صادقة دائمًا،
وأن الودّ بلا غاية، وأن الكلمات لا تُخفي تحتها سكاكين الوقت.
لكن الحقيقة…
أن الأقنعة تسقط حين يصبح الإنسان جاهزًا لرؤية ما لم يكن قادرًا على قبوله مسبقًا.
الوعي هو الشرارة الأولى لسقوط كل الأقنعة.
تسقط الأقنعة لأن الكذب بطبيعته غير قابل للاستمرار،
لأن النية المُغلّفة لا تستطيع أن تتنفس طويلًا تحت عباءة الكلمات،
ولأن الزمن—ذلك الفيلسوف الصامت—يملك قدرة فريدة على تعرية كل ما يخفيه الناس.
تسقط الأقنعة حين تنفصل الأفعال عن الأقوال،
وحين يتعثر الإنسان في لحظة صِدق غير متعمدة،
وحين يُجبر الموقف صاحبه على أن يظهر كما هو:
بخوفه، بطمعه، بغضبه، أو بحقيقته التي لم يكن مستعدًا لعرضها.
لكن الأعمق من سقوط الأقنعة…
هو إدراك أن الحياة في جوهرها سلسلة من الانكشافات:
أنت تنكشف لنفسك قبل أن ينكشف الآخرون لك،
وتكتشف أنك كنت ترتدي قناعًا أنت أيضًا—
قناع التفاؤل المفرط، أو حسن الظنّ المطلق، أو الصبر غير المحدود،
قناع الإنسان الذي يريد أن يرى الجميع كما يشتهي،
لا كما هم في حقيقتهم.
وهنا تحدث اللحظة الفلسفية الأعظم:
حين تفهم أن سقوط الأقنعة ليس عقوبة،
بل هو تحرّرٌ من الوهم.
تحرّرٌ من نسخة العالم التي صنعتها في خيالك.
تحرّرٌ من تصورات تربّيت عليها بأن الناس يملكون نقاءً واحدًا،
وأن النوايا على قدر الظاهر.
تحرّرٌ من التعلّق بمن لا يليق بالروح،
ومن منح القلوب في غير مواضعها.
وسقوط الأقنعة يعلّمك أن الحقيقة ليست طيبة ولا قاسية…
إنها عادلة.
تكشف لتعيدك إلى مركزك،
لتقول لك:
ابنِ علاقاتك على فعلٍ لا قول، على صدقٍ لا مظهر، على نقاءٍ لا أدوار تمثيلية.
ولا تجعل الآخرين يعرّفون قيمتك عبر كلماتٍ يطلقونها بقدر حاجتهم إليك.
وحين تتعمّق أكثر، ستفهم أن الوجوه الحقيقية لا تحتاج إلى قناع،
لأن حقيقتها مُطمئنة بما يكفي لتُعلن نفسها بلا خوف.
وأن القناع هو إعلان ضعف لا إعلان قوة،
إعلان خوف من الظهور على حقيقته،
خوف من أن الحقيقة لا تكفي.
وفي نهاية الرحلة،
ستدرك أن سقوط الأقنعة ليس نهاية علاقة،
بل بداية وعي،
وبداية بصيرةٍ ترى ما وراء اللغة، وما وراء السلوك، وما وراء المظهر.
وأن كل قناعٍ سقط، كان خطوة دفعتك نحو انسان أكثر حكمة، أكثر صفاءً، وأكثر شفافية في اختياراته.
وتدرك أن الحقيقة، مهما كانت موجعة،
هي دائمًا أرحم من الوهم،
وأكثر عدلًا من القلب حين يُحب،
وأعمق من الكلمات حين تُزيَّن،
وأصدق من كل قناعٍ سقط أو سيسقط لاحقًا.






