الأعلامي خضران الزهراني _ منطقة الباحة
في زحمة الأيام، وبين ضجيج اللحظات التي لا تمنحنا فرصة لالتقاط أنفاسنا، يتساءل الإنسان كثيرًا: لماذا تبدو النفوس مُتعبة مهما حاولنا تهدئتها؟ ولماذا يبقى داخل كل قلب مساحة ألمٍ لا تهدأ، مهما ابتسمنا وتظاهرنا بالقوة؟ لعل السبب أن الأرواح خُلقت في معركةٍ دائمة؛ صراع بين نورٍ يدعوها للسكينة، وظلامٍ يجرّها نحو القلق والتعب. ومن هذا السؤال، ومن هذا الوجع الصامت الذي لا نبوح به، يبدأ هذا المقال بحثًا عن صفاءٍ نفتقده… وراحةٍ نركض خلفها ولا ندركها تمامًا.
**”لا تصفو النفوس مادام إبليس حيًّا؛ فالقلب البشري، مهما بدا ثابتًا وقويًّا، يبقى أكثر الكائنات هشاشة. يخدشه موقف، ويؤلمه صمت، ويوقظه مجرّد خاطرٍ عابر يُعيد للسطح جراحًا دفنتها الأيام. وفي داخل كل إنسان، طبقات من الذكريات المثقلة، وأبواب من الحزن المُغلق، ومشاعر مؤجلة تنتظر لحظة انكسارٍ صغيرة لتعود أشد وجعًا.
كم من مرةٍ أقنعنا أنفسنا أننا تجاوزنا، أننا تجاوزنا الراحلين، الكلمات الجارحة، الأحداث المؤلمة… لكن ذكرى واحدة كفيلة بإعادة كل شيء. فالنفس بطبيعتها لا تنسى بسرعة، ولا تشفى بسهولة، لذلك لا غرابة أن نبقى نتصارع بين ما نريده وما يؤلمنا، بين ما نتمسك به وما يجب أن نتركه.
نعيش بين دعوتين: دعوة النور التي يُحبّها القلب، ودعوة الظلام التي يزيّنها الشيطان. وما بين هاتين القوتين، يمضي الإنسان مرهقًا، يبحث عن لحظة راحة خفيفة، ولو كانت قصيرة، تثبت له أنه لا يزال قادرًا على التنفس وسط هذا الزحام النفسي.
وأكثر ما يوجع، أننا لا نجد دائمًا من يفهم ألمنا الحقيقي. فهناك حزنٌ لا يمكن وصفه، ولا شرحه، ولا كتابته. حزنٌ يصمت في الصدر لكنه يملأ الروح بثقلٍ لا يراه أحد. لذلك نعود إلى الله… نضع بين يديه كل ما نخفيه عن البشر، فهو وحده القادر على مداواة ما لا يداوى، وعلى إعادة الضوء لمن ظن أن نوره انطفأ. كم من قلبٍ كان على حافة اليأس، فعاد إليه الأمل دون سببٍ ظاهر، إلا أن الله لم يتركه.
ومع الوقت، نتعلّم. ندرك أن الصفاء ليس عيشًا بلا ألم، بل قدرة على المضي رغم الألم. نتعلم أن القوة ليست في القلوب التي لم تنكسر، بل في القلوب التي انكسرت بعنف… ثم نهضت من جديد. نتعلم أن كل رحيلٍ كان رحمة، وكل تأخير كان حكمة، وكل ضيق كان بابًا إلى فرج لم نتخيله.
وفي نهاية المطاف، نُدرك أن النفوس لا ولن تصفو تمامًا في دنيا خُلقت للامتحان. لكنها رغم ذلك، تتشبث بالأمل، وتبحث عن نور الإيمان، وتعود بعد كل سقوط أقوى وأكثر فهمًا، لأن الله يكتب للإنسان في كل ابتلاء فهمًا جديدًا، وفي كل وجعٍ نورًا، وفي كل انكسارٍ عودة أجمل.
وهكذا… نمضي. نحمل ندوبنا معنا، لا نخجل منها، بل نفهم أنها كانت طريقًا إلى نضج لم نكن لنصل إليه لولا الألم. نمضي لأن الرحمة الإلهية أعظم من كل تعب، ولأن قلوبنا — مهما أثقلتها الأيام — لا تزال قادرة على أن تُحب، أن تصبر، وأن تُشرق من جديد.”







