أحمد صالح حلبي
حينما جلس الحسن البصري رحمه الله في جنازة النُّوار امرأة الفرزدق، وقد اعتم بعمامة سوداء، وأسدلها بين كتفيه، والناس بين يديه ينظرون إليه.
وقف الفرزدق وقال: يا أبا الحسن، يزعم الناس انه اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرهم!
قال: من ومن؟
قال: أنت وأنا .
قال: ما أنا بخيرهم، ولا أنت بشرهم، لكن ما أعددت لهذا اليوم؟
قال: شهادة أن لا إله إلا الله، منذ سبعين سنة .
قال: نعم والله العدة.
إن كان رحيل الانسان مؤكد والمسافة بين بقائه وموته قصيرة ، والعمر وان طال له أجل لن يزيد عن الحد الذي حدده المولى جل وعلا ، وليس هناك بقاء خالد ، وعلينا أن ننظر لمن كانوا معنا بالأمس ، هاهم اليوم بعيدين عنا ، داخل قبور مغلقة النوافذ مظلمة بسوادها مضيئة بحسناتهم وأعمالهم الصالحة ودعاء الاحياء لهم بالرحمة والغفران .
وظلام القبور وعذابها ناتج عن أعمال فاسدة وأفعال قبيحة ابرزها أكلُ أموال الناس بالباطل وهو ما يأخذه الإنسان ويستولي عليه من أموال الناس من غير وجه حق، إما سرقة أو غصبا، أو ظلما وعدوانا، أو غشا واحتيالا وكل هذه الأعمال حرمها الإسلام وحذر من مخاطِرها
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «…كل المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرْضُه». رواه مسلم.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حَجة الوداع: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحُرْمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت». قلنا: نعم. قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب». متفق عليه.
ومن صور أكل أموال الناس بالباطل ادعاء الأمانة والحرص على حفظ حقوق الآخرين ، فيتحدث الشخص عن أمانته وحرصه على حقوق الآخرين ، وهو في الحقيقة كما تقول الكاتبة والناقدة الإعلامية الإماراتية مريم الكعبي ” أكثر من يتحدث عن الأمانة هو اللص ، وأبلغ من يتحدث عن الكرامة هو الذليل ، وفاقد الشيء بليغ في وصفه ” .
أما من يدعي حرصه على استقطاب الكفاءات الجيدة لتطوير الاعمال ، ثم نراه مستغلا نفوذه الوظيفي بتعيين ابنه بوظيفتين ـ ليبني مستقبله ـ ، ومنح أصدقائه والمقربون منه وظائف قيادية غير مؤهلين لها ، إضافة لممارساته الغير نظامية ، ثم يأتي بعد مغادرته ويقول لقد حفظت الحقوق ، وعملت بصدق وأمانة !
فعن أي أمانة تتحدث يا هذا ؟
ويأتي من يدعي العلم والمعرفة ، وهو أجهل من جاهل ليذكرنا بقول بهاء الدين زهير :
وَجاهِلٍ يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
قَد راحَ يَكفُرُ بِالرَحمَنِ تَقليدا
وَقالَ أَعرِفُ مَعقولاً فَقُلتُ لَهُ
عَنَّيتَ نَفسَكَ مَعقوّلاً وَمَعقودا
مِن أَينَ أَنتَ وَهَذا الشَيءَ تَذكُرُهُ
أَراكَ تَقرَعُ باباً عَنكَ مَسدودا
فَقالَ إِنَّ كَلامي لَسَتَ تَفهَمَهُ
فَقُلتُ لَستُ سُلَيمانَ اِبنَ داوُدا
ومن تربى على الخوف من الله ، والحياء منه فإنه يستحيي أكل أموال الناس بالباطل ، ويستحضر مراقبة الله دوما فلا يعتدي على عباده ، ولا تمتد يديه إلى أموالهم ، لأنه يعلم أن عقاب الله شديد، وعذابه أليم ، وإن نجا اليوم من عقاب الدنيا فلن ينجو من العقاب في الآخرة..
وقد حث الإسلام المؤمنين وأمرهم بالأكل من الطيبات والمباحات، واجتناب المحرمات والخبائث والمكروهات، وتركِ الأشياء المشتبهات. ففي الحلال ما يغني عن الحرام، وقد دعا ربنا سبحانه عبادَه إلى التمتع بما أحله لهم من الطيبات، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]
ختاما إن من رحل عن دنيا فانية إلى آخرة باقية وطوى صفحة حياته ، فإن ذكراه ستظل عالقة بأعماله التي تركها فكلما مضى عام وحل آخر تعود ذكراه من البعيد قبل القريب ، والفقير قبل الغني لأنه ترك عملا جيدا ، يجعلهم يرددون قولهم بأن رحيله مؤلم .
قال الشاعر :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول.
للتواصل
ashalabi1380 ahmad.s.a@hotmail.com @






