الرئيسية مقالات “حين تتحدث الجزيئات بلغة اليد اليمنى”

“حين تتحدث الجزيئات بلغة اليد اليمنى”

102
0

 

بقلم الدكتور /

مازن إسماعيل محمد :

مكة المكرمة:-

في قلب كل خلية، وفي نسيج كل مادة ذكية، تكمن خاصية غريبة لكنها حاسمة: الكيرالية. إنها ليست مجرد انحراف هندسي أو تماثل مكسور، بل هي لغة كيميائية دقيقة تنسج بها الطبيعة تفاصيلها، وتستلهم منها التكنولوجيا أدواتها الأكثر تطورًا. الكيرالية، أو “اليدوية الجزيئية”، هي المفتاح لفهم كيف تعمل الحياة، وكيف يمكن للعلم أن يصمم مواد تستجيب للضوء، أو أدوية تميز بين الشفاء والضرر.

في البيولوجيا، الكيرالية هي أساس الانتقائية الحيوية. فالجزيئات الكيرالية لا تتطابق مع صورها في المرآة، تمامًا كما لا يمكن لليد اليمنى أن ترتدي قفاز اليد اليسرى. هذا الاختلاف البسيط يؤدي إلى نتائج ضخمة: فالأحماض الأمينية الطبيعية كلها تقريبًا من النوع “L”، ما يمنح البروتينات بنيتها الدقيقة ووظيفتها الحيوية. حتى الحمض النووي يتخذ شكلًا حلزونيًا يمينيًا، يحدد كيف ترتبط به البروتينات وتُنسخ المعلومات الوراثية. أما الإنزيمات، فهي مفاتيح كيرالية لا تعمل إلا مع أقفال جزيئية محددة، ما يضمن دقة التفاعلات الحيوية ويمنع الفوضى الكيميائية داخل الخلية.

في الكيمياء والبيئة، تصبح الكيرالية مسألة حياة أو خطر. فبعض الأدوية، مثل الثاليدومايد، أظهرت أن أحد النظائر الفراغية قد يكون علاجًا، بينما الآخر يسبب تشوهات خلقية. كذلك، فإن المبيدات والملوثات الكيرالية تختلف في سميتها وسلوكها البيئي، ما يجعل فهم الكيرالية ضرورة لتقييم المخاطر بدقة. اليوم، أصبح بالإمكان تصنيع مركبات بنظير فراغي محدد باستخدام محفزات كيرالية، ما يحسن الكفاءة ويقلل من النفايات الكيميائية.

أما في عالم المواد الذكية، فالكيرالية تتحول إلى أداة هندسية. تُستخدم جزيئات كيرالية لتحفيز تغييرات دقيقة في المواد، مثل تغيير الشكل أو اللون أو التوصيل الكهربائي، بطريقة انتقائية. ويمكن تصميم مواد تستجيب فقط لنوع معين من الضوء المستقطب، ما يفتح الباب أمام تطبيقات في التشفير البصري والتخزين والتحكم في الحركة. كما تُستخدم المواد الكيرالية في تصنيع عدسات بصرية ومستشعرات قادرة على التمييز بين الجزيئات، وهي تقنيات حيوية في الصناعات الدوائية والغذائية.

لكن الكيرالية لا تتوقف عند حدود المختبر. في علم الفلك، تُستخدم لدراسة أصل الحياة، إذ تشير بعض النظريات إلى أن الإشعاع الكوني المستقطب قد ساهم في اختيار نوع معين من الكيرالية في الأحماض الأمينية على الأرض. وفي علم المواد، تُستخدم لتصميم بلورات سائلة ومواد ميتا ذات خصائص غير تقليدية. وفي الهندسة الحيوية، تُستخدم لتصميم واجهات تتفاعل بشكل انتقائي مع الخلايا، ما يعزز من كفاءة الزرعات الطبية والأجهزة الحيوية.

في النهاية، الكيرالية ليست مجرد خاصية جزيئية، بل هي مبدأ تصميمي عابر للتخصصات. إنها دعوة لإعادة التفكير في “اليد اليمنى واليسرى” للعالم، ليس كرمز للتناظر، بل كأداة لفهم أعمق وتصميم أذكى. من فهم آليات الحياة إلى تطوير مواد تستجيب للبيئة بذكاء، تمثل الكيرالية جسرًا بين الطبيعة والتكنولوجيا، وبين الفكرة والتطبيق، وبين الجزيء والمستقبل.