بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
٢٢/ ١٠/ ٢٠٢٤ م
قال تعالى: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ” [الأنعام : ٣٨]، صدق الله العظيم. وبالفعل، فإن من يتدبر ويتفكر في مخلوقات الله من الطير والحيوان، يجد فيها من المحاكاة مع عالم البشر الكثير والكثير.
وقد درس الخبراء المهتمون بالحياة الفطرية كيف تعيش الفصائل المختلفة من الحيوانات والطير والحشرات، وكل ما يدب على وجه الأرض، فوجدوا الكثير مما يدعو الإنسان إلى التفكر في عظمة الخالق عز وجل. فقد اكتشفوا أن كثيرًا من تلك المخلوقات تعيش ضمن نظام اجتماعي تحكمه قوانين، ويمكن لها أن ترسم الخطط وتتواصل فيما بينها بلغات لا نفهمها، كما ذكر ذلك رب العالمين في محكم التنزيل في قوله تعالى: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” [الإسراء : ٤٤].
وما أكثر المشاهد والأحداث التي سجلتها عدسات الكاميرات، والتي يرقى بعضها لأن يكون قصة في رواية ضمن أحد المجالات الأدبية: الرومانسية، أو الدرامية، أو الأكشن. والحديث يطول، ولكن ما يهمنا هنا هو أحد تلك المشاهد التي وثقتها عدسة الكاميرا، والذي يعبر عن مدى التعاون بين أبناء الجنس الواحد (أبناء العمومة) في الدفاع والهجوم (فزعة)، أي نصرة بعضهم لبعض.
ففي هذا المشهد، تعاون قطيع من الضباع وشنوا هجومًا على أسد. ومن المعلوم أن الأسد، وهو ملك الغابة، أقوى بكثير من الضبع، ولكن كما يقال: “الكثرة تغلب الشجاعة”. حيث كانت الضباع كثيرة، تكر وتفر؛ فهذا يُشاغله من الأمام، وهذا يُهاجمه من الخلف، وآخرون عن يمينه وشماله. وأمام هذا الهجوم المنسق والعدد الذي يفوق قدرة الأسد، عجز الأسد عن الدفاع عن نفسه ولم ينجح في الهروب من ساحة المعركة، إذ لم تتركه الضباع فرصة لينجو بنفسه. وفي أثناء هذا الوضع البائس واليائس بالنسبة للأسد، إذا بأسد آخر يظهر بالقرب من ساحة المعركة. وما إن رأى ابن عمه وما هو فيه من شدة وتكالب قبيلة الضباع عليه حتى أخذته الحمية وفار الدم في عروقه، وقال: “هزلت!”، واندفع نحو أرض المعركة للفزعة لابن عمه الأسد، فانسحبت الضباع وفرَّت من ساحة القتال.
لقد كان المشهد أعلاه، كما سجلته عدسة الكاميرا، مشهداً يدعو للتفكر والتدبر في صنع الخالق الذي علم الحيوان كيف يفكر ويدبر، فيضع الخطط الحربية المدروسة التي تأخذ بعين الاعتبار توازن القوى والتوقيت المناسب للهجوم والانسحاب، بالإضافة إلى الحمية والتعاون على الخير والشر. ومن هنا يتضح وجه من وجوه المحاكاة بين عالم الحيوان وعالم البشر، غير أن الإنسان مخلوق مكلَّف بعكس الحيوان، الذي مهما بلغ من درجات الذكاء يبقى ذكاؤه نابعاً من الغريزة، على عكس الإنسان الذي حباه الله بعقل مُكلَّف، فينبغي أن يقوده عقله ليفرق بين الحق والباطل، لا غريزته كما في عالم الحيوان.
وبحكم أن الإنسان أحد الثقلين اللذين ميزهما الله على سائر المخلوقات بالعقل المُكلَّف، فينبغي عليه أن يفرق بين الخير والشر، وأن تكون فزعته لإخوته وبني عمه وجماعته وجنسه منضبطة بالضوابط الشرعية التي بيَّنها لنا دين الإسلام، كما في قول رسول الله ﷺ: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”. قالوا: “يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟” قال: “تأخذ فوق يديه”، رواه البخاري.
أما ما يقوم به بعض البشر من نصرة أخيه على ظلمه، فإنه من الإفساد في الأرض. ولنا في قصة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عبرة، حيث وجد موسى رجلين يقتتلان: أحدهما من جماعته والآخر من جماعة الأعداء. فلما طلب الذي من جماعته فزعته، لبى موسى النداء فوكز الآخر فقتله. قال تعالى: “وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ” [القصص: 15]. بعدها أدرك موسى أن هذا الفعل كان من عمل شيطاني.
ندم موسى عليه السلام على ما فعل فقال: “لَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (١٧)”. ولما تكرر الأمر من الرجل الذي من شيعته عليه السلام، لم تأخذه الحمية هذه المرة، وإنما حكم عقله وانتقد الرجل على تصرفه، كما في الآية الكريمة: “فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (١٨)”. وهنا بيّن الرجل الآخر ما معنى أن يفزع موسى عليه السلام لابن جلدته بدون وجه حق، كما في قوله تعالى: “فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)”.
وإن من أسوأ أنواع الفزعة التي يؤسف لها في أيامنا هذه أن تهب القبيلة وتتداعى لدفع الأموال الطائلة، وتستحث الوجهاء من كل حدب وصوب لإنقاذ قاتل متعمد من القصاص، لا لشيء إلا لانتسابه لهذه القبيلة، مما يشجع ضعاف النفوس على الاستهتار بأرواح الناس. وإنه لمما يؤسف له أشد الأسف ألا نشاهد مثل هذه الفزعة في المواقف الإنسانية، كسداد دين المدين أو دفع قيمة علاج المريض، وإن كان صالحًا ومن أبناء القبيلة ذاتها التي هبت لإنقاذ رقبة القاتل من القصاص!.