بقلم الدكتور/
مازن إسماعيل محمد : مكة المكرمة:-
في ظل التحولات التربوية التي شهدها العالم العربي في مطلع القرن العشرين، برزت دار المعلمين العالية في بغداد (1923–1958) كمؤسسة رائدة في تشكيل النخبة التعليمية العراقية، وتطوير المناهج الدراسية بما يتماشى مع متطلبات النهضة الوطنية والتحديث الاجتماعي. وبينما لم تكن مفاهيم البيئة والاستدامة قد تبلورت بعد كمصطلحات علمية أو تربوية مستقلة، فإن المناهج التي طُبقت في تلك الحقبة حملت في طياتها بذوراً أولية لفهم العلاقة بين الإنسان وبيئته، وأسست لوعي بيئي ضمني ساهم لاحقاً في تطور التربية البيئية في العالم العربي.
لقد تضمنت المناهج الدراسية في دار المعلمين العالية مقررات في العلوم الطبيعية والجغرافيا والصحة العامة، ركزت على عناصر مثل التربة والمياه والنباتات والمناخ، مما أتاح للطلبة فهماً أولياً للعلاقات البيئية. كما أن إدماج التربية الزراعية والريفية في البرامج التعليمية لم يكن مجرد توجه اقتصادي، بل كان تعبيراً عن رؤية تربوية تربط التعليم بالحياة الواقعية، خاصة في البيئات الريفية التي كانت تشكل غالبية المجتمع العراقي آنذاك. هذه المناهج عززت احترام الطبيعة والعمل الجماعي، من خلال أنشطة لا صفية مثل زراعة الحدائق المدرسية وتنظيم الرحلات إلى الأرياف، والتي ساهمت في ترسيخ قيم بيئية دون أن تُصنف على هذا النحو.
ومع دخول الخمسينيات، بدأت المناهج الدراسية تتجه نحو ربط التعليم بالتنمية الوطنية، فظهرت موضوعات تتعلق بإدارة الموارد، استخدام الأراضي، وتوزيع المياه، ضمن مقررات الجغرافيا والاقتصاد المحلي. كما أن التربية الوطنية بدأت تطرح مفاهيم تربط بين حب الوطن والحفاظ على موارده الطبيعية، في حين ساهمت النصوص الأدبية والدينية في مقررات اللغة العربية والتربية الإسلامية في تعزيز قيم عدم الإسراف واحترام النعم، مما شكل نواة تربوية لقيم الاستدامة البيئية ضمن السياق الثقافي والديني المحلي.
إن مراجعة هذه المرحلة التاريخية تكشف عن وجود وعي بيئي مبكر في المناهج الدراسية، وإن لم يكن مصاغاً بمصطلحات حديثة. فقد ساهمت دار المعلمين العالية في ترسيخ مفاهيم احترام الطبيعة، ربط التعليم بالحياة، وتعزيز المسؤولية الجماعية تجاه البيئة، وهي مفاهيم تشكل اليوم جوهر التربية البيئية الحديثة. ومن هنا، فإن إعادة قراءة المناهج العربية القديمة من منظور بيئي لا تتيح فقط فهم تطور الفكر التربوي، بل تفتح المجال أيضاً لاستثمار الجذور الثقافية والدينية في بناء مناهج حديثة تعزز الاستدامة والوعي البيئي لدى الأجيال الجديدة.
إن هذا الإرث التربوي يدعونا إلى استلهام التجارب التاريخية في صياغة مناهج تعليمية أكثر ارتباطاً بالواقع المحلي، وأكثر قدرة على دمج مفاهيم البيئة والاستدامة ضمن رؤية تربوية شاملة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتؤسس لتعليم بيئي عربي ينهض بالوعي المجتمعي ويخدم أهداف التنمية المستدامة






