بقلم: أحمد علي بكري
حين يثقل القلب بما لا يُقال، لا يبقى أمام الإنسان سوى البحر.
ذلك الصديق الأزلي الذي يجيد الإصغاء دون أن يُبدي حُكمًا، ودون أن يملّ من صمتك الطويل. جلست على رماله وأنا أُصغي لحديث أمواجه، كأنها تهويدة أمٍّ حنونٍ تحاول تهدئة طفلٍ أتعبته الحياة. كان الموج يتهادى أمامي، ثم يعود أدراجه وكأنه يقول: اصبر، فكل ما يذهب سيعود بشكلٍ آخر.
إلى جواري جلس طائر نورسٍ بدا عليه الوهن، نظر إليّ بعينين شاردتين كأن فيهما مرآة لروحي. كان صمته يشبه صمتي، ووهن جناحيه يشبه ما أشعر به من خيبةٍ تثقل أجنحة القلب. لم نكن نحتاج للكلام؛ فالتعب له لغة واحدة يفهمها كل من ذاق طعم الخذلان.
كم هو موجع أن تبذل المعروف وتغفر الزلات، ثم تُكافأ بنكران الجميل!
أن تظنّ أن الصفح يُلين القلوب، فإذا به يُقنع بعضهم أنك ضعيف.
يستسهلون جرحك لأنهم اعتادوا أنك تسامح، ويبيعون كرامتهم برخص التراب لكل من يلوّح لهم ببريقٍ زائف، ثم يتصنّعون العفّة أمامك وكأنهم لم يكونوا بالأمس في أسواق النفاق.
تتكرر الخيبة مرةً بعد أخرى، وتظنّ أنك قادر على الاحتمال، حتى تأتي تلك “القشّة” التي تكسر ما تبقّى فيك من صبر.
ليست القشّة بذاتها مؤلمة، بل تراكم ما قبلها من خيباتٍ صغيرة ظننت أنك تجاوزتها. وعندها فقط تدرك أن الكرامة — مهما طال صبرها — لها حد، وأن الطيبة إن لم يصحبها حزم، تتحوّل إلى عبءٍ على صاحبها.
عدت أنظر إلى البحر، وإلى النورس الذي لم يطر بعد. شعرت أننا نتقاسم الوجع ذاته: هو فقد قدرته على التحليق، وأنا فقدت رغبتي فيه. لكن الموج ظلّ يغني، يهمس لي بأن التعب ليس نهاية الطريق، وأن من يحفظ طيبة قلبه رغم الجراح، لا يُهزم.
فابتسمت رغم الحزن، وقلت في نفسي:
ما أجمل أن يظلّ في الإنسان شيء من الوفاء، حتى بعد أن يعلمه الناس كيف يكون الغدر.
يا بحر قل للهمّ يكفي سنينْ *** ما عاد في صدري بقىايا حنينْ
طيّب ولكن من عطى لا يلينْ *** لو طاح من طعنة قريبٍ وهوينْ
يا نفس لا تشكي ولا تندمينْ *** ترى الصفح ما ينفع مع الغادرينْ
واللي حفظ طيبه بقلبه سنينْ *** يلقى السلام بعين ربّ العالمينْ






