الرئيسية مقالات “التعليم البيئي: بوابة الاستدامة وبناء وعي جديد”

“التعليم البيئي: بوابة الاستدامة وبناء وعي جديد”

372
0

بقلم الدكتور  مازن إسماعيل محمد :
مكة المكرمة 

في ظل التحديات البيئية المتسارعة التي يشهدها العالم، لم يعد التعليم مجرد وسيلة لنقل المعرفة،بل أصبح أداة استراتيجية لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه السلوكيات نحو أنماط أكثر استدامة. فالتكامل بين التعليم والبيئة لم يعد خيارًا تربويًا هامشيًا،
بل ضرورة وجودية تفرض نفسها على السياسات التعليمية والمؤسسات الأكاديمية، في سبيل بناء جيل قادر على مواجهة الأزمات البيئية وصياغة مستقبل أكثر توازنًا بين الإنسان والطبيعة.
لقد أثبتت الدراسات التربوية أن إدماج مفاهيم البيئة في المناهج الدراسية يُسهم في تعزيز التفكير النقدي وتنمية الحس بالمسؤولية لدى الطلاب. ففي دراسة أجريت في جامعة الملك سعود وجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، تبيّن أن المعلمات اللواتي يدمجن مفاهيم الاستدامة في أنشطة رياض الأطفال يساهمن في ترسيخ سلوكيات بيئية إيجابية مثل ترشيد استهلاك المياه والطاقة وإعادة التدوير. كما كشفت دراسة حالة في جامعة العريش أن إدماج التعليم البيئي في البرامج الجامعية أدى إلى ارتفاع الوعي البيئي بنسبة تجاوزت 60٪، وتحسن المشاركة المجتمعية بنسبة 45٪، وزيادة عدد المشاريع الطلابية المرتبطة بالاستدامة،بما يعكس تحولًا في الثقافة الجامعية نحو المسؤولية البيئية.

هذا التحول لا يقتصر على السياق العربي، بل يمتد إلى مؤسسات تعليمية عالمية رائدة. فشبكة التعليم العالي من أجل الاستدامة، التي تضم أكثر من 7000 مؤسسة تعليمية من مختلف القارات، أعلنت حالة الطوارئ المناخية والتزمت بالتحول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2030 أو 2050، مع دمج مفاهيم البيئة في المناهج وتطوير البنية التحتية الجامعية لتكون أكثر استدامة. وفي كندا، تُعد جامعة كولومبيا البريطانية نموذجًا متقدمًا في دمج الاستدامة في كل جوانب الحياة الجامعية، من تصميم المباني إلى المناهج الدراسية، بينما تطبق جامعة لوند في السويد نموذجًا تعليميًا بيئيًا يدمج بين النظرية والتطبيق، حيث يُطلب من الطلاب تصميم حلول بيئية لمشكلات واقعية بالتعاون مع البلديات والشركات المحلية.
إن تحقيق التكامل بين التعليم والبيئة يتطلب تحولًا جذريًا في فلسفة التعليم، بحيث يصبح التعليم البيئي جزءًا لا يتجزأ من الهوية التربوية للمؤسسة التعليمية. ويتطلب ذلك إعادة تصميم المناهج، وتدريب المعلمين على استخدام أساليب تعليمية تفاعلية، وتفعيل الشراكات المجتمعية، وإدماج الطلاب في مشاريع بيئية تطبيقية تُعزز التعلم القائم على المشكلة وتربط المعرفة النظرية بالواقع العملي.
في النهاية، لا يُعد التعليم البيئي مجرد مادة دراسية، بل هو إطار تربوي شامل يُسهم في بناء جيل واعٍ، قادر على مواجهة التحديات البيئية، وصياغة مستقبل أكثر عدالة واستدامة. فالتكامل بين التعليم والبيئة ليس فقط ضرورة تربوية، بل هو استثمار في الإنسان والطبيعة، وفي مستقبل تتوازن فيه المعرفة مع المسؤولية، والتقدم مع الاحترام العميق لكوكب الأرض.