اللواء.م/ محمد فريح الحارثي
ونحن نواكب متغيرات الحياة المعاصرة، حيث تحولت المجاملات من هدايا القلوب إلى هدايا الماركات، صرنا نعيش مفارقة غريبة: كلما زادت تكلفة الهدايا، قلّ عمق المشاعر. كلما ارتفع سعر المظهر، انخفضت قيمة الجوهر. هذا التنافس الصامت على التفاخر بالماديات أصبح يشكل تهديداً حقيقياً لنقاء وبقاء علاقاتنا وصدقها.
التحول الخطير:
لم نعد نتنافس في إسعاد بعضنا، بل في إبهار بعضنا. تحولت:
· المناسبات من احتفالات بالعلاقات إلى استعراضات للمقدرة المادية
· الزيارات من فرص للتواصل إلى اختبارات للمقارنة
· الهدايا من رموز المودة إلى مقاييس القيمة
أصبحت روابطنا الإنسانية تُقاس بالصور والمظاهر، فتحوّلت المجاملات من تعبيرٍ صادق عن المحبة إلى عبءٍ ثقيل يرهق نفوسنا وافكارنا ويستنزف جيوبنا. فما كان يومًا لقاءً بسيط وعفوي يسعد النفوس، أصبح مناسبةً تُدار وفق ترتيبات، وتجهيزات، واستعدادات، تُفرض فيها معايير لا علاقة لها بالود، بل بكل ما يُثقل القلب ويُربك العقل.
*1. من التآلف إلى التفاخر*
لم يعد الهدف من اللقاءات تقوية الأواصر، بل استعراض القدرة على الإبهار. أصبحت الزيارات العائلية والاجتماعية ميادين للمنافسة الخفيه، تُقاس فيها قيمة العلاقة بحجم الهدايا، وتُقيّم فيها المناسبات بمدى فخامتها لا بصدق مشاعرها. هذا التحوّل جرّد المجاملات من معناها، وحوّلها إلى التزامٍ مرهق يُشعر الجميع أنهم تحت مجهر المقارنة والتقييم وتحت عدسات التصوير.
*2. تداعيات تُضعف النسيج الاجتماعي*
هذا التكلف لم يمرّ مرور الكرام، بل خلّف آثارًا مؤلمة وخطيرة تتمثل في:
– *القطيعة الصامتة*: عزوف الكثيرين عن التواصل خوفًا من التكاليف أو الحرج
– *التوتر الأسري*: خلافات تنشأ من ضغوط المناسبات وتكاليفها وبعضها يصل الى حد الطلاق بسبب العجز
– *الانسحاب الاجتماعي*: تراجع أصحاب الدخل المحدود عن المشاركة
– *السطحية في العلاقات*: روابط قائمة على المجاملة لا على المودة الحقيقية
*3. جذور الأزمة*
تكمن المشكلة في تحوّلات عميقة:
– *انحراف القيم*: استبدال الأصالة بالمظاهر
– *هوس الصورة*: الخوف من نظرة المجتمع أكثر من الحرص على راحة النفس
– *تشويه العادات*: تحويل التقاليد الجميلة إلى عادات مرهقة
– *التقليد الأعمى*: محاكاة أنماط حياة لا تناسب الواقع المعيشي للكثيرين ولاسيما ونحن في عصر تصوير التواصل الاجتماعي
*4. استعادة جوهر العلاقات*
لإعادة الحياة إلى علاقاتنا، نحتاج إلى:
– *إعادة تعريف المجاملة*: أن تكون تعبيرًا عن الود لا اختبارًا للقدرة
– *كسر قيود التقاليد المرهقة*: والعودة إلى البساطة التي تُبهج القلب
– *تعزيز التعاطف الاجتماعي*: وتفهّم اختلاف الظروف دون حكم أو ضغط
– *التحلي بالشجاعة*: لرفض ما يُرهقنا ويُبعدنا عن جوهر التواصل الإنساني
*ختاماً: همسة استغاثة*
حين تصبح الزيارة عبئًا، والمجاملة سلف ودين، والمناسبة اختبار، فاعلم أن الوقت قد حان لنُعيد النظر. فالعلاقات لا تُقاس بماركة وثمن ما يُقدَّم ، بل بدفئ ما يُقال من القلب. وكما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ منكم بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. فلنُحرر التواصل من قيود التكلّف، ونُعيد له صدقه، دفئه، وإنسانيته.






