بقلم الدكتور/
مازن إسماعيل محمد :
مكة المكرمة:-
في قلب التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم، تتلاقى الكيمياء فوق الجزيئية مع مفاهيم الطاقة المستدامة لتفتح آفاقًا جديدة في تصميم المواد الذكية. أحد أبرز هذه الاتجاهات يتمثل في تطوير “الأسطح الوظيفية ذات التجمع الذاتي الكيرالي باستخدام وقود حيوي”، وهو مجال ناشئ يعد بإحداث ثورة في كيفية تفاعل المواد مع بيئتها بطريقة موجهة، ديناميكية، وقابلة للبرمجة.
الأسطح الوظيفية هي مواد صلبة معدّلة على المستوى الجزيئي لتؤدي وظائف محددة، مثل التحفيز أو الاستشعار أو التفاعل الانتقائي. وعندما تُصمم هذه الأسطح لتتجمع تلقائيًا (Self-assembly) من جزيئات صغيرة، فإنها تكتسب قدرة فريدة على التنظيم الذاتي دون تدخل خارجي مباشر. وإذا كانت هذه الجزيئات كيرالية (Chiral)، أي غير قابلة للتطابق مع صورتها في المرآة، فإنها تضيف بعدًا هندسيًا حاسمًا يؤثر على التفاعلات الكيميائية الحيوية، مثل التفاعلات الدوائية أو التحفيز الانتقائي.
ما يجعل هذا المجال أكثر إثارة هو إدخال “الوقود الحيوي الكيرالي” كعنصر محفّز. فبدلًا من أن يكون الوقود مجرد مصدر للطاقة، يُستخدم هنا لتوجيه التفاعلات الكيميائية نحو تشكيل بنى كيرالية محددة في أنظمة غير متزنة (out-of-equilibrium systems). هذا يعني أن الوقود لا يستهلك فقط، بل يبرمج المادة لتأخذ شكلًا معينًا، ثم يختفي لتعود المادة إلى حالتها الأصلية أو تنتقل إلى حالة جديدة. يمكن لهذه الهياكل أن تكون مؤقتة، متعددة الحالات، أو حتى قابلة للعكس، مما يفتح الباب أمام تصميم أسطح نانوية أو أغشية ذكية تستجيب للضوء، الحرارة، أو المواد الكيميائية.
تكمن أهمية هذا التوجه في كونه يجمع بين الاستدامة البيئية والابتكار الوظيفي. فالاعتماد على وقود حيوي مستخرج من مصادر متجددة يقلل من البصمة الكربونية، بينما يتيح التحكم الديناميكي في خصائص المواد إمكانية استخدامها في تطبيقات متقدمة، مثل إطلاق الدواء الموجه، الإلكترونيات الحيوية، أو تطوير مواد ذاتية الإصلاح.
تخيل سطحًا نانويًا مغطى بجزيئات كيرالية تتجمع تلقائيًا عند إضافة وقود حيوي معين، لتشكّل نمطًا حلزونيًا يُستخدم في استقطاب الضوء أو في فصل المركبات الدوائية ذات الكيرالية المختلفة. هذا ليس خيالًا علميًا، بل خطوة واقعية نحو مواد تتفاعل مع محيطها بذكاء واستجابة محسوبة.
في زمن تتسارع فيه الحاجة إلى حلول ذكية ومستدامة، يبدو أن الكيمياء فوق الجزيئية، حين تتغذى على وقود حيوي كيرالي، قادرة على منح المواد “حياة ثانية” — حياة تتنفس، تتغير، وتخدم الإنسان والبيئة في آنٍ واحد.






